Ok

By continuing your visit to this site, you accept the use of cookies. These ensure the smooth running of our services. Learn more.

Friday, 08 July 2005

لحظة تبصر - طارق جابر

أؤمن بأن هناك لحظات وأوقات يفضل الصمت فيها الكلام درجات، سواء لأنها لحظات مكللة بالحزن والأسي الذي يعقد اللسان أو لكونها لحظات مؤرقة بالغضب وجيشان المشاعر بما يحجب العقل ويدفع للزلل، أو ربما لكونها مع هذا وذاك لحظات يجدر بالمرء فيها أن يصمت ليصغي لصوت ضميره أو ليتدبر ما يجري أمامه على نحو يتجاوز انفعال اللحظة أو إنفلات الفكرة.

 

إسمحوا لي أن أبثكم مشاعر حزن عميق تنتابني الآن، هي مشاعر على ما يبدو مستقرة ومستديمة معي وإن كانت تتكثف وتتصاعد بين حين وآخر لسبب هنا أو هناك، وفي هذه اللحظة يتحالف سببان لتصعيد جرعة الحزن والكمد الساكنة في القلب، الأول هو مقتل السيد إيهاب الشريف في العراق والثاني هو ردود الفعل وتداعيات الحدث.

 

لا أخفي حزني الشديد على نهاية الرجل الذي يبدو أنه كان قد لقي مصيره وأنا أسطر رسالتي الأخيرة إليكم والتي حملت فقرة عن قضية اختطافه وما لاح من نذر عبر الرسائل المتضاربة التي علقت على خبر اختطافه.

 

في مسألة كهذه تجاوز دافع الحزن والغضب الجانب الشخصي والعاطفي وإن كان جديرا بها، لكني ومع تعاطفي الكبير مع حالة وظروف الشخص الفدر الذي يمر بهذه المحنة، كنت أرى للمسألة أبعاد أكبر تنذر بما هو أجدر بوخز القلب وإثارة الحزن والأسى.
ولم تلبث الأحداث أن تصاعدت في الاتجاه الذي كنت أخشاه، فتمت تصفية الرجل، وإندلعت من ورائه التداعيات وردود الفعل.

 

كنت أخشى أن تنتهي القضية إلى استقطاب واشتباك وشجار بين طرف وآخر، وكنت أخشى أن تخرج أحكاما شمولية بحق هذا الطرف أو ذاك، كما كنت أخشى من انفلات المشاعر بما يخل بجلل الحدث.

 

لذلك كنت أتمنى أن تسود لحظة صمت أو تدبر تمنع هذا الانفلات والاشتباك، كنت أتمنى أن نعبر عن حزننا بلا اتهامات ومشاجرات وأن نقدر ولو أدبيا مصاب أسرة الرجل على وجه الخصوص وكل مصري يمس الحادث مشاعره وكرامته على نحو ما على وجه العموم، كما تمنيت ألا تضيع منا لحظة الحزن أو الانفعال وألا تحجب عنا تفاصيل الصورة الجزئية القضايا الأكبر القابعة في الخلفية والصورة الكلية للمشهد الذي تمر به بلادنا.

 

تمنيت ألا تحمل مأساة السيد إيهاب الشريف أحدا على إغفال قضية الاحتلال أو على وصم ظاهرة المقاومة على الجملة.

 

من أسف أننا لم نجد الانفعال في موضعه كما لم نجد التدبر والتعقل في مكانه، فعندما تعرضت حياة انسان وأسرة للتدمير وهو يؤدي وظيفته وبغض النظر عن تكييف كل منا لقضيته فقد كان حري بنا أن نصمت ونقدم التعازي لأسرته ونسأل الله له المغفرة، بدلا من الدخول في جدل استحقاقه لما ناله أو كونه ضحية، وعندما وجب علينا تدبر الأسباب والتداعيات وجد بيننا من أدان المقاومة وسحب تأييده لها.

 

هكذا فلا لحظة المشاعر كانت بما يليق بالحدث، ولا لحظة التدبر كانت بما يجدر بالمشكلة.

 

إنني أرجوكم أن تضبطوا انفعالاتكم كما يليق ببشر يحرفون عمق وفداحة المصاب بإبتلاء الفقد، فقد العائل والأب والزوج والأخ والابن.
كما أرجوكم ألا تحكموا على المقاومة بمجملها بهذا الحدث، وعلينا جميعا أن نقدر أنه في ظرف كالظرف العراقي وعلى ساحة بملابسات الساحة العراقية بما تتسم به من فوضى وإضطراب فإن وقوع خسائر من هذا النوع أمر للأسف الشديد يمثل القاعدة لا الاستثناء، وفي مناخ الفوضى والاضراب هذا لابد أن تقع الكثير من الأحداث المؤسفة والجرائم ربما المخجلة، لكن المسئول الأول عن كل هذه الجرائم والأحدث هو الطرف الذي صنع هذه الفوضى وهيأها وكرسها، وهو هنا الاحتلال الفعل وليس المقاومة أو حتى الجريمة رد الفعل.

 

إني أرجوكم أن تتأملوا بتبصر شديد مفارقات تداعيات المشهد الذي وقع في لندن بالتزامن مع مأساة الدبلوماسي المصري.
كم خسرت بريطانيا على أثر الانفجارات؟ وكم خسرت من قبلها أسبانيا أو حتى أمريكا في الحادي عشر من سبتمبر، رقم يتراوح من بضع عشرات في الحالة الأولى إلى بضع مئات في الثانية وحتى بضع آلاف في أكبر حدث هز العالم في الحالة الثالثة، ثم لم نلبث نحن في كل الحالات أن أودعنا قفص الاتهام قسرا أو اختيارا بالاتهام المبدئي أو بالدفاع الاستبقاقي.

 

الآن كم خسرنا نحن في العراق وفلسطين على سبيل المثال؟ عشرات ومئات الآلاف ولا يوجد أحد في قفص الاتهام، لايوجد سوى أبطال محررين أو ناشري حضارة وديموقراطية.

 

بضع وخمسون قتيلا في بريطانيا وحديث عن قيمنا وقيمهم وعن الوقوف بصلابة أمام تحدي تغيير القيم وتفتيت الاجماع وترويع الأمنين، وأكثر من مائة ألف قتيل في العراق وعندما تذكر كلمة الارهاب ينصرف الذهن للمقاومة بأكثر مما ينصرف نحو سواها.

 

أليست مفارقة محزنة أن يكون أكثر الأطراف خسارة من الارهاب هو أولها اتهاما بالارهاب بينما أكثر الأطراف ممارسة للإرهاب هو آخر من يتهم بالارهاب.

 

أليست مفارقة مؤلمة أن تتخذ من بضع حوادث وخسائر بشرية ومادية ذريعة لإعادة وإستمرار نهج الابادة والاستباحة المنظم في حق بلادنا وشعوبنا.

 

هل تعرفون ما هي قضيتنا الحقيقية وإلى أين نسير؟
   

 

The comments are closed.