Friday, 25 March 2005
تغيير الطلاء ليس حلا - فهمي هويدي
إذا كان غاية ما بلغناه أننا قمنا بطلاء العمارة. وإذا كان ذلك “الإنجاز” على تواضعه ينسب إلى جهود وضغوط الرئيس بوش، بوصفه وكيل عموم الديمقراطية المعاصرة، فلماذا إذن الطنطنة والتهليل، والتمسح في تحولات التاريخ؟
(1)
ثمة فرقعة إعلامية تتحدث هذه الأيام عن “ربيع العرب” و”انطلاق قطار الديمقراطية” و”نهاية الاستثناء العربي” و”يقظة الشعوب النائمة”، تحاول أن تزف إلينا بشارات انبلاج فجر الديمقراطية في بلاد العرب، التي طال ليلها بأكثر مما ينبغي. وهي فرقعة يشارك فيها خليط من الهواة والمحترفين، والمجتهدين والمنافقين من الأمريكيين والمتأمركين، “المارينز” منهم والمتمرنزون!
تعددت على نحو لا تخطئه عين الكتابات التي صدرت في إطار تلك الحملة. وقد لاحظت أنها تركز على أمرين، الأول أن التحول الديمقراطي لاحت بوادره في العالم العربي، وتجلى في اقطار عدة. وان التشاؤم الذي عبر عنه البعض في مستهل العام الحالي ثبت أنه لم يكن صحيحاً، حيث تلاحقت منذ بداية العام على نحو مفاجئ بشائر الانفراج في فلسطين والعراق والسودان ولبنان (مثلاً د. عبدالمنعم سعيد الشرق الأوسط 9/3)
الأمر الثاني الذي يروج له في سياق الفرقعة الإعلامية هو “أن الأيام أثبتت صحة آراء العالم السياسي المرموق (!) جورج دبليو بوش. فمن نيويورك ولوس انجلوس وشيكاغو وربما أوروبا وآسيا أيضاً يسأل الناس أنفسهم بعصبية: هل كان على صواب؟ - والجواب الموجز هو: نعم. وسواء كان بوش يستحق الفضل أو لا يستحقه، في كل ما يحدث في الشرق الأوسط، فقد كان على صواب، أساساً في بعض الأشياء الكبيرة.. لقد مال نحو التحليل القائل ان المنطقة تربي الإرهاب لأنها أظهرت عوامل عجز عريقة سببتها عقود من القمع والافتقار إلى التحديث.. وإذ تبنى هذه الرؤية، فإن بوش ضغط على حكام المنطقة “الماكرين”، محاولاً بناء جهد دولي أعرض، وجاءت النتائج مدهشة (فريد زكريا نيوزويك 1/3).
حاول رد الحملة وفضح الإدعاء فيها بعض الكتاب المحترمين، فقد كتب الدكتور محمد السيد سعيد قائلاً: ان ما يحتفلون به اليوم في منابر الإعلام الأمريكية هو إنجاز وهمي إلى حد بعيد. والقول ان عجلة الديمقراطية بدأت تدور في المنطقة، لا يزيد على أن يكون خداعاً للذات، أو في أفضل الأحوال قراءة خاطئة إلى حد بعيد لما جرى في الساحة العربية.. وإذا شاء الأمريكيون أن ينسبوا لأنفسهم أن ما حدث في العالم العربي ناتج عن التدخل الأمريكي المباشر في سياسات المنطقة، فذلك يعني أن تلك الظواهر هي انتصار للامبريالية، وليس بالضرورة انتصاراً للديمقراطية باعتبارها منتجاً محلياً (الأهرام 14/3).
في نقده للفرقعة أو الصرعة كتب الدكتور عزمي بشارة يقول: لا يعقل في مرحلة التأسيس التعامل مع الديمقراطية بمصطلحات جاهزة من خطابات جورج بوش وكتبتها الأصوليين، وأن تستهلك كما يستهلك الهامبورجر أو الكوكاكولا، وأن يسمى ديمقراطياً المستهلك المجتهد في جمع الكوبونات والمقارنة بين محل مكدونالدز وآخر، وبين “مول” وآخر فتح حديثاً.. هنالك عطب بنيوي يجعل الديمقراطية تبدو كأنها مستوردة كنوع من “الفاست فود” لأبناء البورجوازية الوسطى.. وهم الذين: استطاعوا سابقاً التعايش مع أي ديكتاتورية ترضى عنهم وعن مسار أعمالهم، وترضى عنها أمريكا حالياً. ولاحقاً يستطيعون التعايش مع ديكور واكسسوار اصلاحي، ويستطيعون التعايش مع أي ظلم اجتماعي ومع تعددية طائفية وتوازنات طائفية، ومن دون مواطنة حقيقية.. إن الديمقراطي الحقيقي والمؤسس، يقف عند الحقوق ويتمسك بها، وينتفض ضد الظلم، ويرفض فرض القوة بدل إحقاق الحق، ويرى أصلاً تناقضاً أخلاقياً بين الحق والقوة”. (الحياة اللندنية 10/3).
(2)
لدي هنا ملاحظتان حول الموضوع هما:
إن الذي أقلقني وحرك عندي مشاعر الشك والارتياب ليس فقط أن المعزوفة انطلقت في بعض الصحف العربية والأمريكية في وقت واحد، ولكن أيضاً أن “الجوقة” التي تهلل لحكاية انبلاج فجر الديمقراطية هي ذاتها التي قادت حملة تسويق عملية السلام. الأشخاص هم هم، بل والشعارات والعناوين لم تتغير. كل الذي حدث أن كلمة السلام رفعت، ووضعت محلها كلمة الديمقراطية أو الاصلاح. أليسوا هم الذين صدعوا رؤوسنا بالكلام عن ربيع السلام وقطار السلام ونهاية سنوات الدم، ثم ماذا كانت النتيجة: الاحتلال ظل كما هو، والاستيطان تضاعف، والاغتيال وتدمير البيوت وتجريف الأراضي استمر، والسور الإجرامي انطلق كوحش يلتهم كل يوم أرضاً جديدة للفلسطينيين. حتى تبين في نهاية المطاف أن عملية السلام كانت في جوهرها فرصة لتمكين “الإسرائيليين” من تثبيت خرائطهم وإقامة حقائق جديدة على الأرض وتمييع القضية بإدخالها في دهاليز لا توصل إلى حسم أي بند في ملفاتها الأساسية. وإذا تصور أحد أن الانسحاب المفترض من غزة من ثمار عملية السلام، فهو مخطئ لا ريب، لأن ذلك الانسحاب هو من ثمار جهد المقاومة، التي جعلت بقاء الاحتلال في القطاع مكلفاً بصورة لا تحتمل، وأن قادة “إسرائيل” اعتبروا غزة دائماً شوكة في خاصرتها، حتى تمنى رابين أن يصحو ذات يوم ليجد أنها غرقت في البحر واختفت من وجه البسيطة!
الملاحظة الثانية أن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن ثمة تطورات سياسية لافتة للانتباه شهدها العالم العربي هذا العام، أغلبها يدخل في إطار “التحسينيات” الموحية بالانتساب للديمقراطية، والبعض الآخر لا علاقة له بالديمقراطية أصلاً. والذي حدث أن التزامن في التوقيت بين تلك التطورات أحدث التباساً في الأذهان، بحيث أن التداخل في التوقيت فهم على إنه انتشار للظاهرة وتداخل في الوظيفة. أعني أنه إذا تصادف ووقعت تلك التطورات في عدة أقطار في عام واحد، فذلك لا يعني بالضرورة أنها تصنف موضوعياً تحت عنوان واحد، لأن طبيعة الحدث ومقاصده تختلف من بلد إلى آخر.
مصطلح “التحسينيات” الذي استخدمته أردت به معناه الأصولي، الذي يصنف الأحكام على ثلاث مراتب، فأعلاها مرتبة هو “الضروري” الذي بغيره يختل نظام حياة الناس، تتلوها في الترتيبات الأحكام “الحاجية”، التي إذا غيبت يقع الناس في الحرج، وبعدها تأتي الأحكام التحسينية، التي هي مما تقتضيه المروءة وسير الأمور على أقوم منهاج. وهذه الأخيرة قد تضيف إذا توفرت، ولا تضر كثيراً إذا غابت، حيث لا يختل من جراء ذلك نظام ولا يقع أحد في حرج. وربما كان دقيقاً وصف الدكتور عزمي بشارة لمثل تلك التطورات بأنها ضمن “إكسسورات” الاصلاح.
خذ مثلاً موضوع تعديل المادة 76 من الدستور المصري التي نالت قسطاً مبالغاً فيه من الاهتمام العام. فالمهللون قالوا انها غاية المراد من رب العباد، والعقلاء قالوا انها مجرد خطوة على طريق الاصلاح، لن تحدث تأثيراً يذكر في الانتخابات التي تجرى في خريف العام الحالي (بعضهم دعا إلى انتخاب الرئيس مبارك بالتزكية لأن ثمة استحالة في منافسته خلال الفترة القصيرة المتبقية على الانتخابات)، ولكن تلك الفرصة ستكون أفضل في انتخابات عام ،2011 إذا جرى تهيئة الحياة السياسية بشكل جاد خلال السنوات المقبلة. وفي ظل هذا التقدير فإن وصف الخطوة التي تمت بأنها “تحول تاريخي” يغدو مفتقداً إلى الموضوعية والدقة. خذ أيضاً الانتخابات التي حدثت في العراق وتحمس لها الشيعة والأكراد أساساً وقاطعها أهل السنة. صحيح أنها وفرت آلية حرم منها الناس منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلا أن المشاركة فيها أو الإقبال اليها، أو حتى مقاطعتها، لم يكن له شأن بالديمقراطية. وإنما كان الأمر كله تنافساً على الحظوظ والأنصبة في الحكم، التي تعزز الموقف الطائفي لطرف والعرقي لطرف آخر. ناهيك عن أن الجميع يعرفون أن الإصرار الأمريكي على إجراء الانتخابات لم تكن مسألة الديمقراطية واردة فيه، وإنما أريد به إيجاد حكومة شرعية تقنن الوجود الأمريكي وتعطيه غطاء أكثر قبولاً. بالمثل فلنا أن نستريب في الضغوط الأمريكية التي مورست لاصلاح السلطة الفلسطينية، وكأن المشكلة في فلسطين هي فساد السلطة وليس الاحتلال. لا يأس بطبيعة الحال أن تجرى الانتخابات البلدية والتشريعية، لكن ما قيمتها إذا لم تؤد إلى زوال الاحتلال وحل المشكلات الحقيقية التي تواجه المجتمع الفلسطيني. وستكون ضارة بامتياز إذا أتت بحكومة أو سلطة تلبي للمحتلين ما يريدون، من نزع سلاح المقاومة إلى اسقاط حق العودة والقبول في النهاية ب “غزة فقط”. بدوره فإن توقيع اتفاق سلام في السودان لا علاقة له بالديمقراطية، وقد وجدنا أنه أدى إلى وقف القتال في الجنوب حقاً، لكنه فجره في دارفور وشرق البلاد. ثم إنه وضع السودان عملياً تحت الوصاية الدولية، التي تسعى إلى إضعاف انتمائه العربي والإسلامي.. واذا صح هذا كله وذاك، فهل من الموضوعية والأمانة أن نعتبر ما نحن بصدده بأنه “ربيع الديمقراطية”؟
(3)
تقف في حلقي مسألة أشار إليها تقرير “نيوزويك” عن مسيرة الحرية في الشرق الأوسط. ذلك أن كاتبه فريد زكريا أمريكي من أصل هندي أشار إلى نتائج آخر مسح لمؤسسة “فريدوم هاوس” بيت الحرية التي أجرت قياساً للحريات السياسية والمدنية بالمنطقة، وضع “إسرائيل” في المرتبة الأولى باعتبارها بلداً حراً، في حين اعتبر الأردن والكويت والمغرب والبحرين، بلاداً حرة جزئياً، أما بقية دول المنطقة فقد اعتبرتها المؤسسة دولاً “غير حرة”.
استوقفتني الشهادة التي منحتها المؤسسة ل “إسرائيل”، واعتبرت أن الدرجة التي أعطيت لها تثير سؤالاً كبيراً يتعلق بقيم الديمقراطية وأخلاقياتها. ذلك أن النموذج الذي تقدمه “إسرائيل” يجسد ديمقراطية منزوعة الضمير، لا مكان فيها للقيم الإنسانية أو الأخلاق. صحيح أن “الاسرائيليين” يمارسون درجة معتبرة من الديمقراطية فيما بينهم، لكن العرب الذين يعيشون في داخل “إسرائيل” محرومون من حقوقهم المدنية، ويتعرضون للحرمان والاذلال المستمرين. ثم أننا لا نعرف أية ديمقراطية هذه التي تسوغ الاحتلال والإبادة واقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم، وتستبيح دماءهم وأموالهم، وتبارك السور الإجرامي الذي يلتهم أراضي الفلسطينيين ويتسبب في تشريدهم وقطع مواردهم.
النموذج “الإسرائيلي” يفتح ملف “الضرورات” في المسألة الديمقراطية، ذلك أن الديمقراطية حين تقترن بالظلم وتفرض قيم الغابة في استخدامها للقوة والعدوان على الحق والقانون، تجهض جوهر القيمة، بحيث تغدو آلية عمياء وصماء تهدر إنسانية الإنسان ولا تصونها.
إن الإنسانية سابقة على الديمقراطية ومقدمة عليها، وحق الإنسان في الحياة والأمن يحتل موقعاً متقدماً كثيراً على حقه في المشاركة. ذلك أن المرء ينبغي أن يستشعر إنسانيته أولاً، قبل أن يدعى إلى التصويت والانتخاب. ودارسو القانون الدستوري يعرفون جيداً أن الديمقراطية تتضمن نوعين من القيم، قيم أخلاقية وإنسانية، وأخرى سياسية. والأولى هي أساس البناء والثانية هي معماره وطوابقه. وضعف الأساس أو فساده ينبئ بمستقبل مظلم للبناء كله. بسبب من ذلك، فينغي أن يكون واضحاً في الأذهان أن أي تحول ديمقراطي يهدر حقوق الإنسان ولا يطوي صفحة الظلم، فإنه يفتقد إلى الصدقية والشرعية، ويقدم نموذجاً كاذباً ومغشوشاً.
بل انني أذهب إلى أن أي نظام يرفع شعار الاصلاح والتحول الديمقراطي، مطالب ليس فقط بأن يتوقف عن الممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان، من اعتقال عشوائي وتعذيب ومحاكمات استثنائية. وإنما عليه أيضاً أن يتطهر من الانتهاكات التي تلوث يديه. وذلك “التطهر” هو دليل الصدق والأمانة في التحول. وهذا ما فعلته جنوب افريقيا حين شكلت لجان المصارحة والحقيقة، وهو ما فعلته المغرب حين تعاملت مع ملفات الغائبين والمفقودين. إذ في الحالتين فتحت الجراح كلها، وجرى تطهيرها من مكامن التقيح والعفن المتراكم، فحوسب من حوسب، واعتذر آخرون مما صدر عنهم وطلبوا الغفران من الضحايا ومن المجتمع ككل. وجرى تعويض الذين تعرضوا للتعذيب، وكذلك الذين فقدوا ذويهم بعدما خطفوا واختفوا في “ظروف غامضة” (تبين بعد ذلك أنها لم تكن غامضة)، أو الذين ماتوا بسبب التعذيب، وقبل هذا وكله وذاك. أطلق سراح سجناء الرأي وألغيت قوانين الطوارئ الاستثنائية التي ألقت بهم في غياهب السجون.
هذه المهمة ينبغي أن تنجز قبل أي كلام عن المشاركة السياسية، أو قل انها ألف باء الديمقراطية، التي بغيرها لا تقوم لبنائها قائمة.
(4)
من أسف أن الممارسات “التحسينية” التي يشهدها العالم العربي الآن تقف في الاصلاح عند حدود إعادة طلاء “العمارة” بلون مختلف يتماشى مع أحدث الصيحات في عالم السياسة، وهو ما يعني الإبقاء على المبنى كما هو، بأركانه ودعائمه، وأحياناً بالعوج في معماره وبالشروخ التي تعتريه. إن شئت فقل إنه الاصلاح الذي يبقي على استمرار الوضع القائم، ولكن بإخراج مختلف وواجهة أكثر جاذبية. حتى أصبحنا بإزاء نماذج وقيادات تنقلت بين الاشتراكية والديكتاتورية والديمقراطية، وأخرى أعلنت عن عدائها للغرب تارة وتمسكها بعدم الانحياز تارة أخرى، ثم ارتمت في أحضان الغرب بعد ذلك. ودلتنا خبرات عديدة على أن أياً من هذه اللافتات والتحولات لم يكن صادقاً ولا أصيلاً، وإنما “الاستمرارية” تحت أي شعار وبأي ثمن ظلت الثابت الوحيد، وكل ما عداها عارض ومتحول.
قلت قبل قليل ان الخطوات “التحسينية” قد تضيف إذا توفرت، ولا تضر كثيراً إذا غابت، ويخطر لي أن أراجع هذا المنطوق في دنيا السياسة، على ضوء الدروس التي مررنا بها. ذلك أن تلك الدروس علمتنا أن التحسينيات قد تضر بالعملية الديمقراطية، لأنها ربما أشاعت وهماً كاذباً بالإنجاز، الذي تتفنن وسائل الإعلام في تسويقه من خلال أساليب التعبئة وغسيل المخ التي نعرفها. وهذا الشعور الكاذب يسهم في تزوير الديمقراطية وتغييب مضمونها الحقيقي، الأمر الذي يغدو الضرر في ظله جسيماً وفادحاً بسبب من ذلك فإنني أدعو إلى التعامل بحذر بالغ مع أية تحسينيات تستهدف تغيير الطلاء والاكتفاء بتجميل الواجهات، الأمر الذي يجعل الناس يشمون رائحة الديمقراطية، ثم لا يرون لها أثراً في حياتهم العملية.
لا أرى بديلاً عن التوافق على أن المعيار الحقيقي للديمقراطية أو الاصلاح السياسي ينبغي أن ينطلق من قياس مدى استجابة الخطوات التي تتخذ للضرورات وليس التحسينيات، تلك التي تمس الأعمدة والأركان وليس الواجهات أو الألوان. في مقدمة تلك الضرورات ضمانات الحريات العامة. ووقف الظلم والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، وسيادة القانون، ونزاهة الانتخابات التي توفر للمجتمعات حقها في المشاركة والمساءلة وتداول السلطة. أما رفع راية الديمقراطية أو الحديث عن الاصلاح السياسي، في ظل قوانين الطوارئ والمحاكمات الاستثنائية التي تقنن الظلم وتحميه، وفي ظل استمرار احتكار السلطة، أعني حين يستمر كل شيء كما هو ولا يتغير سوى اللافتة ولون الواجهة،
فإن ذلك يعد نوعاً من التدليس والغش السياسي.
أوافق تماماً مع القائلين إن تلك الضرورات لا تتحقق بين يوم وليلة، وانها بمثابة أهداف نهائية لا يمكن بلوغها إلا عبر خطوات مرحلية عدة تستغرق وقتاً. لكن هذه الموافقة مشروطة بأمر واحد، هو أن تكون تلك الخطى في إطار تلبية الضرورات وليس التحسينيات. وإذا جاز لي أن أحدد مدخلاً لما أدعو إليه، فإنني أكرر ما سبق أن قلته ودعا إليه آخرون، من أن خطى التدرج ينبغي أن تبدأ بإطلاق الحريات العامة، التي هي الحد الفاصل في المسألة بين الجد والهزل وبين الصدق والكذب.
(5)
ثمة إشارات موحية بأن الولايات المتحدة الأمريكية التي ينسب إليها البعض الفضل في إطلاق رياح الاصلاح في المنطقة. أكثر ميلاً نحو الحفاوة بالتحسينيات دون الضرورات، لأن مصلحتها الحقيقية في الأولى دون الثانية. (لا تنس أن الإدارة الأمريكية راعية الاصلاح السياسي هي ذاتها التي أرسلت بعض المشتبهين لتعذيبهم في أربع دول عربية، حددتها “الواشنطون بوست” بالاسم، بهدف انتزاع الاعترافات منهم). ذلك أن عمليات التحسين الجارية تعطي انطباعاً بالإنجاز، “يبيض” وجه الإدارة أمام الكونجرس، ويمكن تسويقه وخداع الأمريكيين به. في حين أن الاصلاح الحقيقي الذي يركز على الضرورات، قد يؤدي إلى نتائج تتعارض مع المصالح الأمريكية وقد تهددها، خصوصاً في ظل استمرار الشعور المعادي للسياسة الامريكية في المنطقة، الأمر الذي يوفر جواً مواتياً لانتخاب قوى معبرة عن ذلك الشعور، إذا ما كانت الانتخابات حرة ونزيهة.
بعض الكتاب الأمريكيين نبهوا إلى ذلك، أحدثهم توني كارون أحد كتاب مجلة “تايم” الذي نشرت له صحيفة “هآرتس” - عدد 18/3 مقالة حذر فيها من التفاؤل بإمكانية حلول الديمقراطية في العالم العربي، فيما وصفه بالسقوط الثاني لحائط برلين. وذكر بأن 53% من مقاعد المجلس الوطني العراقي ذهبت للشيعة الموالين لإيران، الأمر الذي ينبغي ألا يكون مصدر سعادة للولايات المتحدة وحلفائها. وخلص إلى أن العالم العربي بغير ديمقراطية حقيقية هو أفضل كثيراً للولايات المتحدة والعالم الغربي بعامة.
ألا تشم من الكلام أن الاصلاح السياسي الذي تدعو إليه واشنطن له “سقف” ينبغي عدم تجاوزه، وأن ذلك السقف إلى عمليات التحسين والتجمل أقرب؟!
23:40 | Permalink | Comments (1)
Comments
Hello
God bless u
i m Ahmed zein journalist @ filbalad.com
and member in Kefaya & yoputh for change movment
i sent u an e-mail befor to offer u my help in work & with u in your great job in this site
but i didnt get your replay yet
hope to get it asap
Posted by: ahmed zein | Monday, 13 June 2005
The comments are closed.