Ok

By continuing your visit to this site, you accept the use of cookies. These ensure the smooth running of our services. Learn more.

Friday, 18 March 2005

نشكر السيد الرئيس ونبايعه مدى الحياة - طارق جابر

(1)

كانت لحظة إعلان السيد رئيس الجمهورية في 26 فبراير عن توجيهه خطابا إلى مجلسي الشعب والشورى – بموجب حقه الدستوري - يطلب فيه تعديل المادة 76 من الدستور بما يتيح إختيار رئيس الجمهورية من خلال عملية إقتراع سري مباشر بين أكثر من مرشح، بدلا من نظام الاستفتاء المعمول به وفق المادة السابقة، كانت لحظة الاعلان تلك وما تلاها من أصداء وتداعيات من اللحظات الكاشفة عميقة الدلالة والمعنى في واقعنا السياسي،. ومع غلبة تيار من الترحيب - لا أستثني منه نفسي - بمبادرة الرئيس إلا أنني أرى لحظة كاشفة من الواجب الامساك بتلابيبها وصورة بارزة من الضروري تأملها والتركيز في أبعادها وتفاصيلها ووضع ما تعكسه من معاني ودلالات تحت المجهر وفي بؤرة الوعي العام، ليس بسبب صدق وجلاء اللحظة وحسب ولكن لارتباطها بمسائل أساسية في واقعنا السياسي والثقافي ولأهمية هذا مع ذاك في إدراك الواقع بأبعاده الحقيقية.



لقد دار الطحن خلال الشهور السابقة حول مطالب إصلاح سياسي وديمقراطي رفعت لواءه القوى الوطنية وتيارات المعارضة - ولقى لهذا السبب أو ذاك - حماس وقبول رجل الشارع، وكان من بين جملة مطالب الاصلاح تلك المادة التي طلب الرئيس من المجالس التشريعية بحث تغييرها، ولاشك أن أجندة الاصلاح التي دار حولها الطحن وشكلت الموضوع الرئيسي في الشارع السياسي خلال الفترة الماضية كانت مرتبطة برؤية تعكس درجة من التطور والنضج السياسي كما تعكس قدر من التوافق حول قصور الواقع القائم عن تلبية حاجات التقدم والنهضة التي وجد أن تحقيقها مرتبط بتغيير قواعد اللعبة السياسية في البلاد وتغيير مناخها بشكل جذري.



وظلت الأمور تجري على شد وجذب بين السلطة وبين رافعي لواء مطالب الاصلاح، حتى ساد مناخ من التوتر والاحتقان ومورست كافة أشكال المناورة والتلاعب والالتفاف والضغط والتحريض والمحاصرة حتى لاحت لحظة بدا فيها أن النظام قد وصل إلى صيغة أو قرار يتعامل به مع الوضع الضاغط، الحظة التي توجها إعلان الرئيس في خطابه عن طلبه تعديل المادة 76 من الدستور على جرى.



وقد تلاحقت وتتابعت أصداء وتداعيات هذا الاعلان بما شكل صورة مكتملة وصادقة بقدر ما هي جديرة بالتأمل والنظر، وجاءت التعليقات والتحليلات وردود الفعل التي أثارها الاعلان كالسيل العرم كما ونوعا، مراوحة بين التهليل المندفع والثناء المتفائل والترحيب الحذر، وتضافرت في مجملها لترسم لنا الصورة التي نريد أن نضعها تحت المجهر وفي بؤرة الوعي.



وقد يكون المدخل لمطالعة الصورة من تلك الزاوية الكاشفة هو رصد أمرين، الأول هو الكيفية التي جرى عليها إعلان الرئيس وسياق هذا الاعلان، والثاني هو الكيفية التي أستُقبل بها هذا الاعلان.



قد يكون العنوان الأصدق للمشهد إجمالا هو كلمة المفاجأة أو الصدمة، وقد عبرت كافة الأصداء والتداعيات عن هذا المعني بكل أشكال التعبير، ولا شك أن إعلان الرئيس كان مفاجأة وصدمة بإمتياز، لاسيما وأن المقدمات كانت ملتبسة ومرتبكة بما جعل التنبؤ بما هو قادم مسألة في غاية الصعوبة، وهذه تحديدا – سمة المفاجأة وعدم القدرة على التوقع أو التنبؤ – هي العقدة الأولى التي نود الامساك بها.



في مايو من العام الماضي، بينما كان الرئيس يعاني بعض المشكلات الصحية المبهمة، إزدهرت شائعات حول وزارة جديدة أو تعديل وزاري، ووقعت البلاد فريسة التكهنات والشائعات في كلا الأمرين، الحالة الصحية للرئيس ومسألة الوزارة الجديدة، وإبان تلك الفترة بينما كان الرئيس يستعد لرحلته العلاجية إلى ألمانيا نقلت الصحف تصريحات بالغة الدلالة والاتصال بالمسألة التى نحن بصددها، وإن كانت لم تستقبل بدورها بالعناية والتركيز الذي تستحقه. كانت التصريحات صادرة عن نافذين من أركان النظام السياسي وكان مضمونها أو فحواها - فيما يتعلق بالتكهنات والشائعات السارية حول التغيير الوزاري – أن التعديل الوزاري لا يعرفه كائنا من كان، وأنه في عقل الرئيس، والرئيس فقط.

(2)

يستطيع كل مراقب ومتابع للشأن السياسي في مصر أن يتبين خطابا متصلا بنبرات متفاوته حول برامج إصلاح سياسي وإقتصادي، وكذلك تحليلات عن تطور في الواقع السياسي والاجتماعي تعبر عنه درجة الوعي والنشاط السياسي بين الناس بوجه عام والمشتغلين بالسياسة منهم بشكل خاص، إلا أن إختبارات الواقع تعد هي فقط المحك الحقيقي لكل هذه المقولات والاستنتاجات المرسلة، سواء ما تعلق منها بوجود برنامج متدرج للإصلاح أو ما تعلق منها بتطور الحياة السياسية والاجتماعية بشكل عام.



إن الملاحظتين المنوه إليهما أعلاه – وقع المفاجأة في إعلان الرئيس ومسألة وجود التعديل الوزاري في عقل الرئيس وحده – لا تشكلان سوى علامات بارزة ذات دلالات فارقة ضمن سياق متصل ومستقر لمسألة في واقعنا السياسي يمكن أن نسميها مسألة الرئيس.



وقبل أن نُفَصل ما هي مسألة الرئيس هذه قد يكون من المفيد أن نلفت الأنظار إلى قدر هائل من التناقض الفج الذي يجري تمريره على الوعى العام دون أي شعور بالحرج أو المسئولية، من ذلك التناقض الصارخ بين مزاعم وجود برامج إصلاح متدرجة ومتصلة وبين وصف المفاجأة في مبادرة الرئيس، لاسيما إذا رجعنا إلى تصريحات المسئولين وعلى رأسهم تصريح الرئيس شخصيا في نهاية يناير أثناء توجهه إلى أبوجا لرئاسة وفد مصر في القمة الرابعة للاتحاد الأفريقي والذي قال فيه " الدعوة إلى تغيير الدستور باطلة ونظام الاستفتاء مؤسس على ترشيح البرلمان "،. إن القفزة التي حدثت بين موقف رسمي يرفض الاقتراب من الدستور ويناور لتفاديه ويرى في دعوى تعديله دعوى باطلة في 30 يناير والاعلان المفاجيء بمبادرة تعديل مادة واحدة من الدستور في 26 فبراير، بعد أقل من شهر، هذه القفزة أو التغير الحاد في الموقف على النحو الذي جرت عليه وصفة المفاجأة التي وسمت هذا التحول تتناقض جوهريا مع فكرة وجود برنامج أو رؤية أو إستراتيجية متصلة للاصلاح، ولكن الخطاب العام الرسمي لم يتوقف كثيرا عند هذا التناقض البين، وعلى ذات المنوال تأتي مجمل السياسات التنفيذية مقارنة بالخطاب السياسي الرسمي الموجه للناس.



إن كل الملاحظات السابقة تؤشر بوضوح على وجود خلل رهيب ليس في النظام السياسي وحسب وإنما في الثقافة السائدة والمنتجة لهذا النظام السياسي، ونحن هنا أيضا بصدد صورة أو أنموذج تم تكريسه وترسيخه في وعي الناس وفي الممارسة السياسية، ووفق هذه الصورة يقف رئيس الدولة في موقع مهيمن وخارج عن إطار الدولة وليس ضمنه أو في حدوده، بينما تقف الدولة بقضها وقضيضها في جانب آخر داخل الإطار، ووفق هذا النموذج فإن تصريحات المسئولين تبقي مرسلة ومنقطعة الصلة بالواقع دون أن تكون هناك أي مساءلة أو مراجعة أو استدراك.

هذه الوضعية الشاذة لا يصنعها حاكم فرد أو حتى نظام حكم شمولي توتاليتاري، ولا تخلقها مجرد نصوص دستورية أو قانونية تخول هذا الفرد كافة الصلاحيات دون الحد الأدنى من المسائلة، إنما تصنعها بإمتياز ثقافة عامة هي التي تصوغ الدساتير وتسن القوانين وتصنع الحاكم الفرد ونظام الحكم الشمولي وتستقبل مخرجات كل ذلك بكل أريحية وترحيب.

(3)

في كتابه وصيتي لبلادي يذكر الدكتور إبراهيم شحاتة واقعة حدثت عندما أراد الرئيس الراحل أنور السادات إجراء تعديل دستوري يسمح بإطلاق فترات الولاية لرئيس البلاد دون حد أقصى كما كان يحددها دستور 71 بمدتين كحد أقصى ( المادة 77 – التعديل الذي جرى في 22 مايو 1980 )، وفي غمرة الجدل الذي أثارته رغبة الرئيس الراحل في فتح باب التمديد على إطلاقه وقد شارفت ولايته الثانية على الانتهاء خرج أستاذ جامعي بمقولة لتكييف وتبرير التعديل مدعيا أن النص المقيد يسري على من ينطبق عليه وصف رئيس، بينما الحال مع الراحل أنور السادات أنه ليس مجرد رئيس وإنما هو قيادة تاريخية إستثنائية لا تتكرر ومن ثم فإن النص المقيد لا يشمله بقيده، يقول الدكتور إبراهيم أن هذا الأستاذ الجامعي أصبح فيما بعد رئيسا لإحدى الجامعات المصرية، وقد تم تمرير التعديل المذكور على النحو الساري حتى الآن.



مقولة القيادة التاريخية هذه إجترها مؤخرا أحد القيادات الشابة ( السيد محمد كمال أمين الشباب بلجنة السياسات ) في الحزب الوطني عندما كان يتحدث في برنامج " البيت بيتك " على القناة الثانية في التليفزيون المصري مساء 26 فبراير نفس يوم خطاب الرئيس، إلا أن وصف القيادة كان هذه المرة من نصيب الرئيس مبارك، ولاشك أن كل رئيس سيكون بهذه الطريقة قيادة إستثنائية تسوغ أيا ما كان يراد تمريره.



ربما ينقلنا هذا إلى الوجه الآخر للعملة أو إلى العقدة الثانية التي نريد وضعها في بؤرة الوعي العام، ومفتاحها هو الكيفية التي أستُقبل بها إعلان الرئيس في خطابه في 26 فبراير، ولا بد أن ننوه أيضا إبتداءا إلى أن النماذج التالية من التنوع والاتساع بدرجة تجعلها تتجاوز فكرة مثقف السلطة إلى حقيقة كونها تعبير عن ثقافة عامة وتيار أصيل في واقعنا، هو بالأساس المنتج والصانع والمستهلك لهذا النظام بجملته.



نحن نفهم بطبيعة الحال أن يلقى إعلان الرئيس ترحيبا لدى كافة القطاعات في الدولة، لكن العلة هنا بالأساس في الكيفية والسياق الذي أستقبل به الاعلان، بحيث أغدق الوعى العام ممثلا في المثقفين بالجائزة كاملة غير منقوصة بين يدي الرئيس قبل حتى أن تتم ترجمة الاعلان إلى الصيغة التي تجعله حقيقيا وصادقا وثوريا في الحياة السياسية على النحو الذي أُمّل فيه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد تم إفتعال سياق وهمي وغير حقيقي - متناقض تماما مع الواقع والحقائق – عن رؤية واضحة وتقدم منتظم ومطرد على طريق الديمقراطية والاصلاح السياسي، كما تم من ناحية ثالثة التعامل بتسليم وبداهة منقطعة النظير مع إختزال كل ذلك في عقل الرئيس ومبادرته وحكمته، والنماذج التالية توضح ما نرمي إليه.



أنا أدعي – وأطالب بفحص وتمحيص هذه الدعوى ووضعها موضع الاختبار – أن تكريس وترسيخ أركان النظام السياسي ومسألة الرئيس تجرى من حياتنا مجرى الدم والهواء من أجسادنا، وأننا نقوم عليها ونرعاها بأكثر مما يقوم عليها ويرعاها الحاكم الفرد أو نظامه والدائرة الضيقة حوله المستفيدة من هذا الوضع، من كونه فوق الدولة وخارج إطارها بصلاحيات إستثنائية ومسائلة صورية.



إن المدقق في صياغة الأخبار وفي طبيعة الخطاب العام المتعلق بالرئيس في الصحف والجرائد ونشرات الأخبار سيجد مثلا أن كل خطاب لرئيس الدولة هو بالضرورة متصدرا لمانشيتات كبرى الصحف ونشرات الأخبار العالمية، وكل تصريح لسيادته هو محل إهتمام كل وسائل الاعلام العالمية والمحلية، وكل حوار مع سيادته هو موضوع الصفحات الأولى في كافة أرجاء المعمورة، وكل مشروع أو سياسة أو إجراء هو نتاج توجيهاته ورؤيته وتعليماته، كما أن كل ضيف يحل على مصر ويجري مباحثات فيها وكل إتصال بالرئيس فهو من باب تطلع الطرف الآخر لمعرفة رأي الرئيس في كل القضايا والوقوف على رؤيته الحكيمة في كافة المسائل والمستجدات إلخ.



إن صياغة مطردة وثابتة على هذا المنوال هي في المحصلة – وبغض النظر عن وعى المتلقي وموقفه منها – ترمي إلى تكريس وترسيخ الوضعية التي ترفع الرئيس بعيدا في السماء وتجعل كل شيء يدور في فلكه وينهل من حكمته وخبرته، وتضع دونه كل ما سواه وتحافظ على مسافة شاسعة بينه وبين الكافة.



ويمكنك أن ترصد ذات التكريس في معالجة الفن الدرامي – مسرح وسينما وتلفزيون – لكل أمر يتعلق بشخص الرئيس أو يتعرض له من قريب أو بعيد - قارن ما يرسخه ذلك من قيم ومفاهيم في الوعي العام فيما يتعلق بوضعية ومكانة الرئيس وكيفية التعامل معه وتناوله مع ما نراه في السينما الأمريكية مثلا – وستجد ظلال ذلك وإنعكاساته على الوجدان العام.

(4)

في ذات السياق يجب تناول النماذج التالية بإعتبارها صانعة ومستهلكة في آن لهذا النموذج، ويجب التنبه إلى كل الدلالات والايحاءات التي تنضح بها هذه الكتابات على تنوع كتابها وما تقدمه من ملامح لصورة واقعنا.



في جريدة الأخبار كتب الأستاذ أحمد رجب يوم الاثنين 28 فبراير تعليقا على إعلان الرئيس مبارك يقول " الآن يترك الرئيس حسني مبارك بصمة تاريخية لحكمه تقول إن هذا الرجل رد للمصريين إحترامهم بعد أكثر من خمسين سنة من الوصاية عليهم ".

وفي نفس الجريدة ونفس العدد كتب د نبيل لوقا بباوي " ...لذلك سيقول الشعب المصري نعم لمبارك مهما كان عدد المرشحين أمامه، وأنا بالذات سوف أقول نعم لمبارك بدمي ولن أقول الأسباب الآن فهي كثيرة في حياتي ولأن حبه يجري في عروقي مع دمي ".



في جردية الأهرام كتب الأستاذ أسامة سرايا يوم 27 فبراير تحت عنوان (القرار التاريخي ومسئولياته) " ...وضعنا الرئيس مبارك جميعا أمام الاختبار الصعب....إنها مفاجأة من العيار الثقيل".

وتحت عنوان (وتبقى مسئولية الممارسة) كتب في نفس العدد الأستاذ محمود مراد " يمكن القول الآن وبإرتياح أن دقات ساعة الديمقراطية قد إرتفعت لتطغى على ضجيج كثيف شهدته ساحة العمل الوطني في الآونة الأخيرة ويمكن القول – وبكل تأكيد – أن مصر قد صارت وبحق هي واحة الديمقراطية في منطقة تحكمها إعتبارات عديدة...".

كما ورد في ذات العدد تصريح للدكتور مصطفى الفقي نصه " سيادة الرئيس مبارك، أنقذت المنطقة من كارثة مؤكة " ، وفي سياق ذات التصريح أيضا " أكد الدكتور مصطفي الفقي رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب أن سياسات الرئيس حسني مبارك في أكثر من حدث أنقذت منطقة الشرق الأوسط من من كارثة مؤكدة...وأشار الدكتور الفقي إلى ظاهرة غياب الشباب عن المشاركة في الحياة السياسية في مصر متهما الأحزاب بمسئوليتها نظرا لأن الحياة الحزبية الحالية ضعيفة للغاية وأن الأحزاب لا تبذل جهدا من أجل إعداد كوادرها ووجودها مرتبط بقيادات تاريخية..".



في نفس العدد كتب أيضا الدكتور على السمان تحت مقال بعنوان (أخيرا أصبح لصوتي ثمن) ورد فيه "...وفجأة وأنا أتابع خطابه في المنوفية – وهو يفجر أخطر مبادرة سياسية في تاريخ مصر الحديث – شعرت وكأننا قفزنا من عهد إلى عهد ومن مدرسة إلى مدرسة جديدة.." هكذا دفعة واحدة.



ونموذج آخر جاء في مقالة بعنوان ( ضمانات اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب المباشر) نشرها الأهرام يوم 1 مارس للمستشار زكريا شلش رئيس محكمة الاستئناف جاء بها "... وقد فاجأنا الرئيس محمد حسني مبارك بهذا القرار العظيم الذي أخرس الألسنة التي كانت تدعي أنه يصعب تعديل الدستور وجعلوا من نصوصه نصوصا سامية لايجوز الاجتهاد فيها أو المساس بها – ضع في الخلفية هنا تصريحات الرئيس قبل أقل من شهر حول بطلان دعوى تعديل الدستور على النحو المذكور سالفا – وتودع مصر بهذا التعديل نظام الاستفتاء الذي يتسم بالعبث وعدم الجدية وخاصة إذا ما علمنا أن نتائجه كانت تقترب دوما من الـ 99% وكان مجالا لسخرية وسائل الاعلام العالمية ".



وكتب أيضا في ذات الصحيفة والعدد تحت عنوان العبور الجديد إلى الديمقراطية المستشار علاء الدين مرزوق معلقا على خطاب الرئيس " محلقا عبر أحلامنا، منطلقا نحو آفاق الديمقراطية والعدالة والحرية....".

وكتب أيضا القس إكرام لمعي مقالة بعنوان الرجل والقرار جاء فيها " ...بعد أن إتفقت معظم الأحزاب – لاحظ التلفيق والاختلاق هنا - على تأجيل الدستور إلى ما بعد الاستفتاء لينص على أن تكون انتخابات الرئاسة بين أكثر من مرشح بالانتخاب السري المباشر فاجأنا الرئيس مبارك بقراره..."



إن النماذج السابقة كلها تحتاج بالقعل إلى نظرة تأمل وتحليل دقيق لسبر أغوار هذا الخطاب والثقافة التي يعكسها ويعبر عنها، وهي كما أسلفنا نماذج من التنوع والتعدد بقدر يجعلها تتعدى المفهوم الضيق لمثقف السلطة – المبرر الذي يمكن أن يفسر مضمونها – لتعكس كما نزعم ثقافة عامة ونسق فكري سائد، وإذا أخذنا في الاعتبار أننا لا نتكلم عن ثقافة رجل الشارع أو ردود أفعاله وإنما عن ثقافة نخبة وفكرها، وأن العينات السابقة لا تمثل تيارا محددا أو منعزلا أو ذو مرجعية سياسية واحدة، فسوف ندرك أن ما نرصده هنا على وجه الدقة يمثل تيارا عاما وأصيلا في ثقافة التعامل مع السلطة،. إذا أخذنا ذلك في الاعتبار سندرك مدى عمق أزمتنا وحقيقة الطور الذي يقف عنده وعينا وتطورنا السياسي والثقافي.

نحن بلا شك لا نتهم جملة المثقفين، بله لا نتهم أحدا على الاطلاق بقدر ما نحاول لفت الآنظار إلى ثقافة سائدة وفكر حاكم نرى أن النماذج السابقة تمثله بما هو يمثل فكر ونهج الأكثرية الغالبة، وما سواها مجرد إستثناء.

إن الملامح العامة والخطوط المشتركة التي تعكسها النماذج السابقة تتلخص في عدة محاور أساسية يمكن إجمالها في التالي،



أولا، تمحور فكرنا وثقافتنا حول فكرة البطل الفرد وإنجازه الفذ، ولا تكاد تجد تعليقا يضع قرار الرئيس كمحصلة لما إعتمل في البلاد من ضغوط وتوتر ومطالبات بالاصلاح خلال الفترة الماضية أو في سياقها، بله إن المضمون الذي نقلته جل الكتابات تصريحا أو إيحاءا كان يصب في خانة نسبة الفضل إلى الرئيس والتعامل مع إعلانه باعتباره منحه أو هبة أو أنه جاء إستجابة لنبض الشارع أو ضمن سياق ملفق لرؤية إصلاحية مزعومة لإلخ، وهذا النمط من التفكير - مقابل فكر وثقافة النظام والجماعة - هو أحد العلامات البارزة والتشوهات العميقة في ثقافتنا ونظامنا.



ثانيا، سوف تلاحظ ما سبق الاشارة إليه من تلفيق بيًن وإختلاق واضح لسياق وهمي لحشر القرار أو المبادرة فيه، بينما واقع الأمر أنه لا يوجد أي سياق أو منهج أو حتى رؤية للاصلاح والتطور في أي إتجاه، وكل ما هنالك هو لعبة ممارسة سلطة واستبسال في البقاء على مقاعدها، وفي حين يمكن فهم أن يصدر ذلك عن من هم في سدة الحكم أو بطانتهم والمنتفعين من ورائهم، فإن ما يحتاج إلى وقفة وتفسير هو مساهمة وتكريس المثقف والنخبة بشكل عام لهذه اللعبة على نحو ما تعكس النماذج السابقة، وكأن الغالبية تمارس هذا التماهي أو التلاشي أمام السلطة بدافع غريزي متجاوز حتى لظاهر المصلحة والمنفعة.



ثالثا، سوف تستشعر أيضا من قراءة الاقتباسات السابقة هرولة النخبة إلى وضع الجائزة بين يدي النظام قبل أن تسفر مبادرته التي يملك التحكم في مسارها ومآلها وتوجيهها وإخراجها على النحو الذي يشاء، قبل أن تسفر عن حقيقتها ومدى تطابق جوهرها مع الصفات والنعوت التي خلعت عليها بالمجان وتماهيها مع التطلعات الحقيقية للشعب في الديمقراطية والحرية.



غني عن الذكر في هذا الإطار أن أي نخبة لديها حد أدني من الوعي والجد ما كان لها أن تستقبل هذه الخطوة – وإن وجب الترحيب بها – بكل هذا التهليل والتطبيل قبل أن تكتمل إجراءات إنفاذها، ناهيك عن الوقوف على مصير الخطوات التي تم القفز عليها والتي تعتبر ضرورية وحتمية لجدية هذا التوجه واكتماله، كإلغاء العمل بالقوانين الاستثنائية ومراجعة صلاحيات الرئيس ووضع قيد على عدد مرات تولي المنصب. ( عندما سئل الرئيس أثناء زيارته لمشروع توشكى عن هذا الموضوع الأخير قال "أن الشعب هو الذي سيحدد مدة بقاء الرئيس في منصبه وأن هذا هو ما يسير عليه العالم كله. وبالطبع فإن أحدا لم يراجع الرئيس فيما قاله مرسلا وعن أي عالم الذي يسير على إطلاق مدد الولاية الرئاسية كان يتحدث الرئيس.



رابعا، من الصعب أن تعتبر النخبة التي تصدر عنها ردود فعل على هذه الشاكلة بإعتبارها نخبة جادة وصالحة لأن تكون طليعة تقدم حقيقي للأمة، فصفات الهزل والعبث أقرب وأصدق في تشخيص ووصف أوضاع هذه النخب.

(5)

إن الصورة النهائية التي ستخرج بها إذا وضعت كل ما سبق في أطار واحد هو أن هناك طغيانا عارما على مستوى الوجدان والفكر من جانب السلطة على الشعب عموما وعلى النخبة خصوصا، وأن هذا الطغيان قرينه إنسحاق طوعي من الشعب ومن النخبة على حد سواء على أعتاب السلطة وبين يديها، وهذه الصيغة في العلاقة بين السلطة والناس، والحاكم والمحكوم يجرى تكريسها وترسيخها وتثبيتها وخدمتها من كل الأطراف و بكل الوسائل والأدوات، بوعى وبغير وعى، من بطانة السلطة والبعيدين عنها كل على حد سواء.



وهذه النتيجة هي ما يجب وضعه في بؤرة الادراك العام، بصورته وهيأته الخام، الخشنة والصادمة، لأن هذه تحديدا هي ما تشكل الأرضية التي يمكن الانطلاق من إدراكها نحو تطور سياسي حقيقي وشامل يكسر الصيغ السابقة ويستبدل بها صيغ جديدة تصلح قاعدة لإنطلاق الأمة للأمام بدلا من دورانها حول نفسها.



وإذا ما أدركنا هذه العلة، فسنجد أن علاجها على فداحتها ليس بمستصعب، كما لا يشكل أي تهديد لأمن الوطن أو مساسا بإستقراره، وهو يبدأ أساسا من فكر جديد يستند إلى وضع الرئيس والسلطة داخل إطار الدولة والنظام وليس خارجه أو فوقه، كما يستند إلى قاعدة المساءلة على قدر المسئولية والحساب على قدر الصلاحيات التي يجب أن تكون محددة ومحدودة وموزعة على السلطات في توازن حقيقي، ولابد إذا كان هناك نية صادقة للخروج من أسر النظام / الثقافة السائدة، لا بد أن تكون هناك مبادرة لتطبيع صورة جديدة للرئيس في وعى الناس تجعله أقرب إلى الناس وإلى صفات البشر العاديين منه إلى الصفات والنعوت الاستثنائية، تجعله قابلا للوقوف في مناظرة أمام منافس أو أكثر وقابلا لطرح برنامج سياسي على الناس يمكنهم قبوله أو رفضه - عندما سئل الرئيس مبارك خلال رحلته إلى أبوجا عن برنامجه الانتخابي قال إن برنامجي الانتخابي معلن وموجود ومطبق كل يوم‏,‏ فأنا لست جديدا علي الساحة وأعمالي هي برنامجي - وقابل للوقوف أمام الرأي العام في وضع محاسبة ومراجعة إلخ ، ولابد من ناحية أخرى أن تكون هناك مبادرة من النخبة تقود بها الشعب لوقف هذا الانسحاق والتلاشي أمام السلطة.

(6)

لقد بدى في لحظة ما أن الناس تتوق إلى استنشاق نسائم حرية وديمقراطية حقيقية، وهيأت النخبة للوعى العام أنها بلغت حدا من النضج والتطور يخولها المطالبة بحقها في إختيار رئيس البلاد بين أكثر من مرشح بنظام إنتخاب يتيح الفرصة أمام كل المواطنين للترشح لمنصب الرئيس كما يتيح لكل المواطنين إختيار رأس السلطة التنفيذية.



ثم وجدنا مؤشرات عبرت عنها – إلى جانب الاقتباسات السابقة - أخبار من عينة ما نشره الأهرام في 1 مارس تحت عنوان عمال (مصر يجددون عهد الولاء لمبارك)، أو ما نشر في نفس العدد والصفحة نقلا عن اجتماع لنقابة المهن التمثيلية جاء في نصه " بعثت نقابة المهن التمثيلية برئاسة الفنان يوسف شعبان برقية تقدير للرئيس مبارك بإسم جموع الفنانين المصريين وأكدت البرقية أن المبادرة تأكيد على حرص الرئيس على الحرية والديمقراطية وحماية الوطن من المعارضين ذوي المصالح. كما سجل نقيب الممثلين تأييد ومبايعة أعضاء النقابة للرئيس مبارك لمواصلة مسيرة مصر".



لا أعرف في ظل تداعيات وأصداء من هذا النوع وبهذا الكم كيف يمكن النظر بجدية إلى كل مطالب الاصلاح التي شغلت الساحة السياسية طوال الفترة الماضية ومن وقفوا وراءها، لاسيما وكل الارهاصات توحى بأننا بصدد إستفتاء مقنع في رداء إنتخاب مباشر ومبايعات بالروح والدم بدلا من صناديق إقتراع حقيقي وكأن لسان حالنا يقول : نشكر الرئيس مبارك على مبادرته بتعديل المادة 76 من الدستور...ونبايعه رئيسا مدى الحياة.

The comments are closed.