Ok

By continuing your visit to this site, you accept the use of cookies. These ensure the smooth running of our services. Learn more.

Friday, 01 April 2005

من الجاني الحقيقي - طارق جابر

في سبتمبر 1994 أذاعت شبكة السي إن إن الاخبارية الأمريكية على العالم تقريرا مصورا من السيدة زينب في القاهرة أحدث دويا هائلا خصوصا داخل مصر.



كان الفيلم الذي بثته محطة السي إن إن يصور عملية ختان الطفلة نجلاء – عشرة أعوام – على يد حلاق صحة وبمعرفة ومباركة والديها وحضور صحافية مصرية – المنسقة - وفريق السي إن إن الذي قام بالتغطية.



ومنذ تاريخ بث الفيلم أعتبرت قضية الختان من القضايا ذات الأولوية على أجندة العمل العام، رسمي وأهلي، وثار جدل كبير في المجتمع المصري حول هذه القضية وتم تداولها من كافة الزوايا والاتجاهات، دينية واجتماعية وطبية ونفسية إلخ.



الواقع أن الحادثة كانت جديرة باثارة عدة تساؤلات وقضايا- خلاف قضية الختان ذاتها التي كانت من وجهة نظرنا مجرد مدخل لما هو أعمق وأعم - إلا أن القضايا والأسئلة الأهم في تلك الواقعة لم يتم طرحها على الاطلاق، فيما يبدو أنها - بعد مرور أكثر من عشر سنوات على واقعة تقرير السي إن إن – أصبحت ملحة بدرجة تستوجب لفت الأنظار إليها.



نحن نقول إن القضايا أو الإشكاليات التي أثارها بث التقرير إنحصرت تحديدا في ثلاث مسائل أساسية إستحوذت على إنتباه الرأى العام وشغلته وشكلت صلب تعاطيه مع المشكلة.



المسألة الأولى – العارضة من حيث كونها مجرد مدخل – كانت موضوع التقرير ذاته وهو قضية الختان ومدى مشروعيتها من النواحي الدينية والطبية والنفسية والإنسانية إلخ، والمسألة الثانية كانت إنصبت على غاية المحطة ونواياها السيئة من بث هذا التقرير، والمسألة الأخيرة عالجت توصيف الدور المريب الذي قامت به الصحافية المصرية المنسقة لهذا التقرير.



في تقديري أن واقعة بث التقرير كانت فرصة ومدخل حقيقي لمناقشة قضايا خطيرة وجدية، ولكن ما حدث أن القضايا الحقيقية التي كمنت وراء الحدث تم تجاوزها و تخطيها أو ربما لم تلفت الانتباه أصلا، بينما إنصب الإهتمام على القضية العارضة وقضايا أخرى فرعية شتتت البصر والاتنباه، وهو ما أسهم في بقاء النار كامنة تحت الرماد بينما كل ما جرى التعامل معه كان الدخان والرائحة.



من بين التداعيات والتغطيات التي أثارتها الواقعة يمكن أن نأخذ نموذجا يعبر عن الاطار الذي تم تداول القضية في حدوده، وهذا النموذج هو حوار أجراه الأستاذ مفيد فوزي مع صحافية شابة في قناة النيل الاخبارية في برنامجه ذائع الصيت حديث المدينة.



كان موضوع الحوار هو تقرير السي إن إن، وكان السؤال الذي ختم به الأستاذ مفيد حواره مع مذيعة قطاع الأخبار هو عن رأيها في تصرف تلك الصحافية المصرية، وكانت إجابة الصحافية الشابة هو أن الحكم على سلوك الصحافية المصرية التي سهلت ونسقت لفريق السي إن إن تصوير التقرير يتوقف على فهم دوافعها من وراء عملها، فإذا كانت تقصد إثارة مشكلة قائمة في المجتمع فهذا دور الاعلام ورسالته، أما إذا كانت هناك دوافع أخرى فإن سلوك الصحافية يعد أبعد ما يكون عن رسالة الاعلام وشرف المهنة، ويبقى الفيصل في ترجيح أي من الاحتمالين هو المنبر الذي إختارته الصحافية لإثارة القضية.



بدت تلك الاجابة وقتها من الذكاء واللباقة درجة ظهر معها استحسان الأستاذ مفيد على قسمات وجهه، وبدت المذيعة الشابة كأحسن ما يكون عليه وعى الشباب الوطني والمنتمي.



وعند هذه الإجابة اللبقة وإيتسامة الرضى والاستحسان التي رد بها المحاور إنتهى الحوار من حيث كان ينبغي – من وجهة نظرنا – أن يبدأ أو يمتد نفاذا إلى القضايا الكامنة في عمق الصورة وخلفية الحدث.



نحن بالطبع لا نتحدث عن موضوع تلك الواقعة تحديدا بقدر ما نقصد مضمونها الذي نراه نموذج لسيناريو أصبح مرشح للتكرار بشكل مكثف مع التطورات الكبيرة التي حدثت في العالم من حولنا والتدهور الحاد الذي إنحدرت إليه مجتمعاتنا.



القضايا الأهم التي توارت وراء ظاهر المشكلة أو دخانها والتي تمثل مضمون المسألة وجوهرها يعبر عنها سؤالان غاية في البساطة والمباشرة، سؤالان كان يجب أن يثارا بأعلى صوت عطفا على إجابة الصحافية الشابة وحبور المحاور الجريء.



السؤال الأول هو هل كان في مقدور الصحافية المتهمة – وبالتالي في مقدورنا – إثارة هذه القضية بذات القدر من الوضوح والشفافية – دون أن يعني ذلك بالضرورة إثارتها بنفس أسلوب السي إن إن عبر التقرير المصور –من خلال منبر محلي أو داخلي؟



والسؤال الثاني هو كيف كان يكون رد الفعل إزاء إثارة القضية من خلال منبر داخلي؟ ونحن هنا لا نعني فقط رد فعل الرأي العام ولكن نعني أيضا رد فعل الأجهزة الرسمية ومنحى تفاعلها مع ما يثار من قضايا داخليا.



القضية الجوهرية هنا إذن هي مدى حيوية وشفافية المجتمع في طرح وتعريض قضاياه ومشاكله من ناحية، ومدى فاعلية وإستجابة النظام والمؤسسة لما يثار من قضايا داخليا، فضلا عن التساؤل حول مدى سماحه بإثارتها من الأساس.( لابد أن تعقد المقارنة بين تجاوب المؤسسة مع القضايا التي تثار داخليا وتجاوبها مع القضايا التي تثار خارجيا).



ليس لدينا أدنى شك أن رد الفعل على كلا المستويين – المجتمع والدولة – كان سيختلف جوهريا لو أن القضية أثيرت من على منبر داخلي، هذا بإفتراض أن إثارتها كانت متاحة في ذلك الوقت.



واليوم وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على تلك الحادثة تبدو الأوضاع أكثر تعقيدا وإشكالا، أولا لأن القدرة على إثارة القضايا والمشاكل – سواء عبر منابر داخلية أو منابر خارجية - قد تضاعفت ووترسخت ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ثانيا فإن حيوية وفاعلية المؤسسة في التعامل مع ما يثار من قضايا ومشكلات قد تراجعت وإنحسرت.



والنتيجة الحتمية التي تفضي إليها هذه المعطيات هي ببساطة إمكانية أكبر في طرح المشكلات والقضايا يقابلها قدرة أقل – إن لم تكن معدومة – على حلها والتعامل معها.



هب على سبيل المثال أن مواطنا تعرض اليوم إلى إهانة أو تعذيب أو أن مواطنة تعرضت لهتك عرض أو إغتصاب مثلا في قسم شرطة، فإلى أي مدى تملك وسائل الاعلام - خلاف المعارضة - إثارة المشكلة وعرضها بشفافية وأمانة؟ وإلى أي مدى تملك المؤسسة الحيوية والنزاهة في التعامل معها، وفضى عن هذا وذاك إلى مدى يمكن اليوم تجريم مواطن أو طرف داخلي يسعى إلى إثارتة مظلمته أو مشكلته على منبر خارجي؟



لاشك لدينا أن هناك محاذير كثيرة كانت تمنع أو تجهض وصول أي قضية حساسة إلى الرأي العام، وأن هذه المحاذير قد تقلصت رغم أنف أصحابها، ولاشك ليدنا أيضا أننا نفتقد القدر الكافي من الحيوية والثقة بالنفس الكافي والضروري للتفاعل مع القضايا المثارة والتجاوب معها.، أن استمرار هذا القصور الذي تفاقم على ما هو عليه في وقت أصبح بإمكان أي إنسان بسيط أن يخاطب العالم أجمع ويلفت إنتباهه وفي وقت أصبح لقوى واتجاهات مشبوهة أجندات واضحة ومعلنة للتدخل تحت هذا الستار أو ذاك، لاشك أن هذا وذاك يعني ببساطة ووضوح تهديدا قائما وخطيرا لأمن الدولة والمجتمع كله.



لم يعد مقبولا إذن ولا ينبغي أن يكون مسموحا بمارسة أي نوع الكبت أو التضليل أو المصادرة في إثارة أي قضية، كما لم يعد مقبولا أن تتجاوب المؤسسة والمجتمع مع أي خبر ينشر على صفحة داخلية في أي صحيفة في واشنطن أو لندن أو باريس – نذكر بأنه في الواقعة المذكورة آنفا بادر وزير الصحة آنذاك أصدر قرارا فوريا على أثر تقرير السي إن إن بمنع ختان الإناث خارج المستشفيات وبدون معرفة طبيب – بينما يتعامل بمنتهى الصلف والتجاهل والمناورة مع حملات كاملة تثار ربما لشهور وسنوات طويلة على منابر داخلية.



القصد أننا هنا لا نبرىء كل من يلجأ إلى طرف خارجي سواء لضمان وصول صوته أو رفع مظلمته أو حتى ليستقوي به على الداخل، ولكننا نجرم بالأساس ونحمل المسئولية لمجتمع يفتقد الثقة والشفافية في تعريض وإثارة مشاكله ومؤسسة تفتقد الحيوية والنزاهة في التعامل مع هذه المشاكل وتصم عنها الآذان ولا تفتحها ما لم يأتها الهاتف من وراء الحدود.

The comments are closed.