Ok

By continuing your visit to this site, you accept the use of cookies. These ensure the smooth running of our services. Learn more.

Friday, 13 May 2005

سنة أولى رشوة - مصطفي قيسون

بداية أحيى كل شرطى شريف فى هذا الوطن فمازالت مصرنا بخير ولايعيبها مثل هذه الحالات التى تمثل نقطا سوداء فى ثوب ناصع البياض أتمنى لها البتر لأنها حالات لاتسئ للشرطة

فحسب بل تسئ لوجه مصر.. إن الأساليب الشيطانية التى يلجأ إليها عسكرى المرور المرتشى على الطرق بين المدن لفرض إتاوته على السائقين قد حيرت قيادات الشرطة على مر العصور ولم تستطع إستئصالها حيث مرت هذه الأساليب بعدة مراحل كانت أولها تسليم الرشوة يدا بيد ولما ضاق عليهم الخناق استعانوا بصبي صغير يقف ليس بعيدا من نقطة المرور ليلتقط ما يقذف به قائد السيارة من عملات وبعد أن يطمئن الجميع يقوم الصبي بتوصيل الأمانات!.. وعندما إكتشفت القيادات اللعبة ابتدع المرتشون فكرة جديدة هى (البرميل)!.. وهو برميل نفط فارغ يقبع بجوار بوابة المرور وعلى مرمى من يد سائق السيارة فيرمى فيه الرشوة (ع الطاير) بلغة الكورة!.. إستمرت هذه الفكرة إلى أن اكتشف المرتشون أن بعض السائقين يتلاعبون فمنهم من يرمى خمسة قروش أو عشرة قروش ورقية رغم أن المتفق عليه هو الربع جنيه! ومنهم من يقطع الربع جنيه إلى نصفين فيرمى نصفه فى البرميل ويدخر النصف الآخر لسفرية أخرى! لذا فقد عاد المرتشون إلى عهدهم الأول وأصبحت الرشوة تـُسلم يدا بيد!..
أما عن حكايتى مع الرشوة فكانت فى شهر يوليو 1972 عندما بدأت المعاناة للخلاص بسيارتى من براثن الجمارك أيام أن كان العائد من الخارج لص ضليع فى الإجرام مالم يثبت غير ذلك وكان عليه أن يتنقل بين القاهرة والإسكندرية حيث ملفات الجمارك وما كان يطلق عليه (ولازال) الدفتر الأزرق لتثبت أنك لاتمتلك أو أى أحد من أهلك سيارة أخرى.. وإن كنت جاهلا للأساليب الشيطانية ولم ترفع الراديو وولاعة السجاير من السيارة فسوف يضاف مبلغا لابأس به كضريبة عن هذه الرفاهية التى تتمتع بها دون خلق الله!.. وقد أراد أحد الزملاء من العائدين لأرض الوطن أن يكون فطنا ومن العالمين بأمور الفهلوة فرفع ولاعة السجاير والراديو والهوائى (الأنتنا اوالإيريال) ودسهما فى إحدى حقائبه لكنه فوجئ عند تقدير الرسوم الجمركية بإضافة بند عن راديو السيارة.. صرخ فى وجه (المثمن) "لكن العربية ما فيهاش راديو" فرد عليه المثمن "يعنى شركة الفيات عاملة (خـُرم) فى رف العربية ديكور؟!" فأسقط فى يده..
بعد أن طفح الكيل من كثرة التنقلات بين أروقة المصالح الحكومية وأقسام المرور وورقة من هنا وورقة من هناك ولم تصبح (روحى فى مناخيرى) كما يقولون بل أن الروح ظلت تتذبذب بين الحلق واللسان ويمنعها عن الخروج القبض عليها بالنواجز حتى يتم الإفراج عن السيارة.. كان المشوار قبل الأخير هو الدخول إلى ساحة مرور (الدرًاسة) حيث تحصل على خطاب إلى المرور الذى يتبعه عنوان السكن..
الحمد لله أجلس الآن على (دكة) فى (تراس) أحد الأدوار فى مواجهة قاعة كبيرة تعج بالعسكر الذين يجلسون على مكاتب يؤدون عملهم فى صمت ومن إحدى نوافذ القاعة التى تطل على التراس تستطيع رؤية أحد العسكر منكبا على مكتبه ويوحى من مظهره أنه الآمر الناهى فى هذه القاعة فيذكرنى ذلك بأفلام نجيب الريحانى ذات اللونين الأبيض والأسود إلا أنها بلون واحد داخل القاعة هو اللون الأصفر.. كنا نصطف على الدكة خمسة من الرجال العائدين من الخارج والذين يحدوهم الأمل فى عيشة مستقرة على أرض الوطن بعد سنوات الغربة.. لاحظت (كونستابل) تزين ساقيه زوج من الجوارب الجلدية السوداء اللامعة والتى لا أعلم لها إسما كان يسير فى التراس ذهابا وعودة كمن يتمشى على كورنيش البحر وعندما يقترب من موقع (الدكة) يتفحص الجالسين خلسة فألمح فى عينيه ما يوحى بأنه يبحث عن فريسة وحركات السير الذى يؤديها ويديه خلف ظهره يذكرك ببرنامج عالم الحيوان عندما يؤدى النمر بعض الحركات قبل الإنقضاض على فريسته ولاأدرى لماذا اختارنى بالذات من بين الخمسة رجال الجالسين!..
- لك ورق جوًه؟
- أيوه..
- شايف ح الصول اللى قاعد هناك ده؟
- أيوه..
- خـُش له جوه وصبًح عليه!
قمت من مكانى على الدكة ودلفت من باب الحجرة الكبيرة التى تشبه إحدى قاعات المزادات إلا أننى لم أكن مرتاحا للحركة بين المكاتب التى ينكب عليها عسكر منهم بشريط ومنهم من يزين كتفه بأربع إذ لم يكن قد ظهر على ساحة الأمن من يُطلق عليه الآن أمين الشرطة.. وصلت إلى الهدف فوجدت وجها تعلوه السماحة يختلف تماما عن الوجه الذى كان يبدو لى من النافذة المطلة على (التراس) ومما جعلنى أتأخر قليلا فى إلقاء السلام أنى وجدته منهمكا بشدة فى الأوراق التى أمامه مما أوحى لى أنه يتظاهر بالإنشغال وأن وقته ثمين وكأنه يقول "خلصنى!" ويدعونى للدخول فى الموضوع ولسان حاله يقول "عايز أشوف غيرك!"..
- صباح الخير يا ح الصول..
إذ لم يكن لقب (باشا) قد انتشر بعد فى محيط الشرطة!.. وغالبا هذه (التصبيحة) تتكرر كثيرا أثناء العمل فلم يكلف نفسه برد التحية لابأحسن منها ولابمثلها ودخل هو فى الموضوع مباشرة كأنه يعلم علم اليقين سبب وصولى إلى عقر مكتبه!.. فبادرنى بقوله:
- اتفضل اقعد.. الإسم إيه؟
جلست على مقعد ملاصق تماما لصف من الأدراج يقع على الجبهة اليمنى من مكتبه وأخبرته عن إسمى وفى لحظات كانت أوراق سيارتى فوق كل الأوراق على سطح مكتبه وكأنها هليوكبتر هبطت فجأة على ساحة المعركة.. وفى توقيت واحد سحب أحد أدراج الجبهة اليمنى من المكتب الذى بدا لى وكأنه فم كبير قد انفرج إلى النصف وهو يقول:
- تحب تاخد ورقك باليد أونبعته بالبوسته؟
- ياريت والله آخد الورق معايا عشان نخلص..
قلت ذلك وأنا أنظر إلى الدرج الفارغ الذى تم فتحه إلى النصف فنشط ذاكرتى وتذكرت على الفور حكايات الأقارب والأصدقاء فى مسألة سيناريو الدرج وطريقة فتحه التى تتصل بعملية (تفتيح) المخ ونظام (فتح عينك تاكل ملبن)! لكنى ترددت لحظات فالمكان يعج بالعسكر.. أفقت على همهمة ونحنحة ترجمتها إلى "خلصنى.. المكان آمن!".. فعرفت يدى طريقها إلى جيب البنطلون أتلمس أوراق النقد بداخله وقد كنت على علم مسبق بما يحويه هذا الجيب إذ كانت ورقتين إحداهما جنيه كامل والأخرى من فئة الخمسين قرشا ولما كانت أصابعى ليست مدربة بما فيه الكفاية للتمييز بين الورقتين بحاسة اللمس فخرجت يدى تحمل بين أصابعها المرتعشة إحدى الورقتين فقذفتها فى الدرج وبدنى كله ينضح بالعرق وكأنى أتخلص من حشرة زاحفة عرفت طريقها إلى ظهرى فقد كانت أولى تجاربى مع الرشوة.. وبعد أن استقرت الورقة فى قاع الدرج نظرت إليها بطرف عين فوجدتها الورقة ذات الخمسين قرشا فأسقط فى يدى لأننى كنت أود أن أبدأ المزاد بجنيه كامل.. أما الرجل فقد كان رد فعله أسرع من تقديرى للموقف فقال على الفور:
- دا كده الورق مايوصلش خالص!!
وقبل أن ينهى تهديده كانت يدى تمتد إلى جيبى لتخرج الجنيه من مكمنه وتضعه بجوار صاحبته من ذوات الخمسين قرشا فتوالت الأحداث سريعة.. أغلق الدرج.. امتلأت الأوراق بالتوقيعات اللازمة.. صوت ضربات ختم (النسر) وهى تهبط على الأوراق اهتز لها المبنى وأشعر أنها أصابت سكان حي الدراسة بالأرق!..
وحتى لايتعجب القارئ العزيز من تدنى مبلغ الخمسين قرش أو الجنيه الكامل الأوصاف كرشوة فى تلك الأيام أذكر له أن هذا (الجنيه) كنت تشترى به كيلوجرام ونصف من اللحم المشفى!.. أى أن الجنيه ونصف بحساب هذه الأيام يعادل أكثر من 60 جنيه بالتمام والكمال إذا ما وضعنا سعر اللحمة محل اعتبار!..
خرجت من القاعة أتأبط كنزى من الأوراق أستمتع بنظرات الحسد من الوجوه التى اتخذت الدكة مجلسا لها وكأنهم يتساءلون "عملت إيه يا ابن الإيه!".. سرت فى خيلاء ولسان حالى يقول "ياأرض اتهدى ماعليكى أدى" فقد حصلت أخيرا على صك عتق سيارتى وبعد أن وصلت إلى نهاية التراس حيث قمة السلم وقبل أن أهبط ألح عليً حب الإستطلاع فنظرت خلفى لأجد الكونستابل يقترب من أحد الرجال الجالسين على الدكة!..
بعد هذا الموقف تعلمت الكثير.. كيف تـُنهى مشكلة بالطريق المباشر الذى لم يعرفه (إقليدس) طيب الله ثراه وظل طول عمره يردد أن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين.. فإما أنه كان رجل أهبل أوأنه لم تكن على أيامهم رشوة ولو امتد به العمر إلى يومنا هذا كانوا (زفوه) فى الشارع مرددين "العبيط أهه"!.. ومنذ ذلك التاريخ تولد لدي إحساس خاص أستشف به طلب المرتشى بمجرد أن يبدأ فى سرد المعوقات.. عليك فقط أن تقدر منزلة المرتشى واعلم أن الخطأ فى تقدير حجم الرشوة قد يوقظ الضمائر فجأة وتجد نفسك ضيفا على أقرب (تخشيبة) وتصبح مشكلتك بلاحل!!

The comments are closed.