Ok

By continuing your visit to this site, you accept the use of cookies. These ensure the smooth running of our services. Learn more.

Monday, 25 April 2005

الوعي في زمن المحنة - طارق جابر

المحنة تفضي بك إلي إحدى نهايتين لاثالث لهما، إما الحقيقة أو الضياع، يستوي في ذلك ما إذا كان من يكابد المحنة فرد أو أمة.



أما إحتمال ترجيح هذه العاقبة أو تلك فمنوط ببساطة بعنصرين مقترنين – لاثالث لهما أيضا – هما معدن المبتلى ووعيه.



أما معدنه فهو ما تشكل مادته الأساسية عقيدة ومباديء الفرد ( الأمة ) وتراثه الأخلاقي والمعرفي والقيمي، المنبثقة جميعا من نسقه الفكري ومذهبه الفلسفي ومرتكزاته الايديولوجية، والمنصهرة في سجل تجاربه وخبراته مشكلة في النهاية قوام ذاته وملامح هويته وجوهر كينونته.



وأما وعيه – والوعي هو ببساطة عملية ادراك - فهو اتصال عقل الفرد ( الأمة ) ووجدانه بماضيه وحاضره، وادراكه على مستويَيْ الفكر والشعور لحقيقة معدنه ومكوناته وقيمته ووزنه.



من هنا إذا كان معدن الأمة / الفرد يمثل مادة المدرك أو المحسوس، فإن وعيها يمثل أداة عملية الادراك ذاتها، أو بعبارة أخرى فإن معدن الأمة يمثل قيمة الرصيد المتاح للاستخدام بينما يمثل وعيها كيفية معرفة هذا الرصيد وإرادة استخدامه وتوظيفه على أي النحو.



ومن البديهي في ضوء المفاهيم السابقة أن ننتهي إلى حقيقة أن معدن الأمة وتراثها وقيمها مهما بلغ شأوه وارتقى شأنه يبقى بلا نفع ولا جدوى ما لم يجد وعي حي يدركه ويسحن تمثله ويلم بأبعاده ويحيط بجوانبه.



وليس الأمر كذلك إذا ما توافر الوعي وانطمس مفهوم المعدن أو الهوية، فعندها تبقى حقيقة أن الوعي بالأساس هو لبنة بناء وتشكيل المعدن وصياغة الهوية، بصرف النظر عن طيبعة المادة التي تصاغ منها هذه وتلك وقوانين التفاعل التي تصنع المخرجات، أو بعبارة أخرى بصرف النظر عن طبيعة وشكل المنتج.



غير أن ما ينبغي الاشارة إليه هو أنه ما لم ينبثق الوعي عن قيم ومفاهيم ومباديء ايجابية ومحايدة فإن الوعي الفاعل والارادة النشطة في هذه الحالة سوف تفضى بأصحابها إلى محنة لا تقل عن محنة امتلاك القيم والمباديء الايجابية والمحايدة في غيبة الوعي والادراك والارادة.



ولاشك أن المأساة تبلغ ذروتها عندما تقع أمة ما في بؤرة المحنة الأولى ومحيط الثانية، بعنى أنها تقعي فوق تل من القيم والمباديء والتراث ولا تمتلك العقل لفهمه ولا الضمير لاحيائه ولا الارادة لتفعيله، وفوق ذلك امتلكت فوق رصيدها الروحي والثقافي المجمد نتيجة ركود العقل وتعطل الارادة رصيدا ماديا يوقعها في مجال أطماع أمة أو أمم أخرى تعيش محنة الهوية الانسانية وتفتقد القيم الايجابية المحايدة، إذا تحالف كل هذا وتزامن مع بعضه البعض تشكلت ذروة المحنة والمأساة، وهي ايجازا الأزمة التي تعيشها أمتنا.



محنتنا هي أن غياب العقل يجمد كل الثروة الروحية والثقافية والقيمية التي نمتلكها إرثا، كما أن غياب الارادة يعطل كل الثروة المادية والاقتصادية والبشرية التي نرقد عليها قَدَرا، فتخترق هويتنا ويمتهن تاريخنا وتزدرى ثقافتنا بغياب العقل وانطماس الهوية، كما تستباح أرضنا وتحتل بلادنا وتسرق مواردنا وتنهب ثرواتنا بغياب الارادة وانطماس الوعي.



وهذا ينتهي بنا عند بداية الخيط من جديد، الوعي الذي ينضوي على كل من العقل القادر على النقد والتمييز والانتقاء والفرز ولا يقف عند حدود الحفظ و التكرار والاجترار، والارادة النشطة في حقول الفعل والعمل والتنفيذ والحركة، الغير مرتهنة في متاهات الانشاء والسكون والتردد والكمون.



إذا أدركنا هذا وشرعنا في بناء أدمية الانسان بحفظ كرامته وتشكيل وعيه ببناء عقله وصياغة ضميره بحسن ادراكه لمعدنه وهويته وواقعه نكون قد سرنا في طريق السلامة التي تنتهي بنا إلى الحقيقة والخروج من المحنة، وإذا فاتنا ذلك فسوف نبقى كما في التشبيه القرآني كمثل الحمار يحمل أسفارا، ناهيك عن أننا نكون قد سلكنا طريق الندامة الذي سيفضي بنا حتما إلى النهاية الأخرى.

The comments are closed.