Friday, 04 March 2005
الديمقراطية .. اشكالية الصراع بين الاقوياء والمستضعفين - اسامة الهتيمي
الكثير من القضايا الفكرية ما زالت محاصرة داخل أزمة ما يسمى بدائرية الفكر العربي والإسلامي وتعني عدم تجاوز البحث إلى ما بعد الخلاف التقليدي حول الجواز والحرمة وهي الأزمة التي تمثل العامل الأكبر والأخطر
على مسيرة التطور الفكري في الذهنية العربية والإسلامية.
وتتخذ هذه الأزمة أشكالا نسبية من مجتمع إلى آخر بحسب طبيعة هذا المجتمع ومدى مشاركته واحتكاكه ودينامكيته الفكرية التي تشكلها العديد من العوامل والظروف ومدى الاستعداد .
كما تتحقق هذه النسبية داخل المجتمع الواحد خلال فترات زمنية مختلفة بالسلب أو بالإيجاب بتنوع الاحوال السامحة بهيمنة فكرة على أخرى بما يوجد أحيانا تراثا ثقافيا متناقضا في بعض الأوقات .
وتأتي الديمقراطية في مقدمة القضايا التي تقع أسيرة هذه الإشكالية حتى أنه وبعد مرور ما يزيد على قرن من الزمن من طرح القضية ما زال يدور الحوار بين الباحثين بمختلف توجهاتهم حول مشروعية التعامل مع المفاهيم الديمقراطية من عدمه وهو الأمر الذي لم يقتصر على الإسلاميين فحسب بل أمتد إلى غيرهم وإن اتخذ نمطا آخر يشكل لهم دائرة الحلال والحرام بمفاهيم غير دينية .
وليس من المنطقي بذل الجهد في محاولة لتبسيط القضية فالأمر ليس مختصرا على إشكالية بعينها بقدر ما تنبأ عن خطأ في تركيبة الوعي الجمعي العربي ساهمت العديد من العوامل المختلفة في صنعه وهو ما يدعو إلى بذل المزيد من الجهد المنظم والفعال من قبل الباحثين والمعنيين في إطار إعادة تشكيل هذا الوعي وعلاج ما أصابه من خلل .
وتكتسب قضية الديمقراطية خصوصية تميزها عن بقية القضايا الأخرى تدفع إلى عدم تجاوزها لنقطة بعينها وهو ما يمكن أن نسميه بالخصوصية الدافعة الى التخلف وتعقيد الانطلاق نحو الأمام .
فالديمقراطية ليست مجرد إشكالية ذهنية لكنها واقع مرتبط بطرفين أحدهما قوي أو مستقوي والآخر ضعيف أو مستضعف ، وليس من مصلحة القوي أن ينتهي الجدل حول ما يمكن أن يكون شوكة في ظهره تحرمه من تطلعاته وأحلام البقاء .
فبداية الصراع قائمة بفعل فاعل مازال يحرص على أن يزيد من حدته ويستميت في استمراره .. فالمسألة حياة أو موت وجود أو عدم وليس متوقعا أن تكون المعركة بالسهولة التي لا تحتاج فيها إلى مقاتلين وضحايا وهو ما يشير بقوة إلى ازدواجية إشكالية الديمقراطية بين الذهنية والواقعية .
الديمقراطية والشورى
الأسماء تشكل لدى قطاع كبير من الإسلاميين حساسية شديدة وهو الأمر الذي يعود إلى أن المصطلحات تعود في طبيعتها إلى ظروف وأسباب وبيئة نشأتها التي تجعل لها دلالات خاصة لا يمكن أن تتجاوزها إلى غيرها إلا بتوافر نفس ما توافر لها في بيئتها الأصلية وهو ما يدفع هؤلاء إلى اعتبار أن الديمقراطية بمفاهيمها الغربية لا تتلاءم مع المجتمع الإسلامي الذي أنتج مبدأ آخر أكثر شمولا ودفعا للإنسان الذي هو خليفة الله في الارض لتحقيق المجتمع المنشود.
ويصر هؤلاء من منطلق عدم التعاطي مع المسميات التي أُفرزت ونتجت خارج الحدود الفكرية للإسلام على رفض الديمقراطية وهو ما انسحب بالتالي على رفض العديد من الآليات الديمقراطية التي لا يتعارض أغلبها مع المبادئ والغايات العليا للإسلام وقد كان ذلك سببا في وجود حالة من الصراع بين هؤلاء المحسوبين على التيار الإسلامي وبين غيرهم ممن يتبنون الديمقراطية وآلياتها كخيار للتغيير وتحقيق مجتمعهم المنشود أيضا .. تعدى هذا الصراع حدود الخلاف النظري إلى حد تبادل الاتهامات بالتخوين والعمالة وما شابهما .
غير أن محاولات توفيقية تمخضت داخل التيار الإسلامي سعت إلى إيجاد صيغة وسطية توازن بين التطلعات الجماهيرية للديمقراطية والرؤية الإصولية الرافضة لها لاعتبارات الفلسفة والمنطلقات ، وقد حرص هذا التيار الوسطي التنبيه على دور المبدأ الإسلامي الرئيس في هذه المسألة وهو " الشورى " التي يمكن أن تحقق مكتسبات الديمقراطية فضلا عن مراعاتها للإصول الإسلامية .
لكن يبقى أن آخرين يمعنون في تجذير الخلاف اللفظي بقصد أو بدون قصد وهو ما يعوق إحداث الإجماع الذي بتحققه يمكن إحداث فعل التغيير وهو الخطر الذي يخشاه الأقوياء .
ويغيب عن فريق أن التجارب الإنسانية ليست شئيا مقدسا بل هي قابلة للصواب والخطأ حتى يمكن الاستفادة وتصحيح المسار بما يقلل إلى أقصى مدى حجم الزلل ويتم خلال ذلك الاسترشاد بالتعاليم الإسلامية التي حددت الخطوط العامة دون الإستغراق في التفاصيل التي يمكن أن تتبدل وتتغير بحسب الزمن والمكان .
وهو ما يدفع إلى القول بعدم التعارض بين اعتماد الآليات الديمقراطية التي تكفل حق المشاركة في صنع القرار أو حق المطالبة في تحقيق العدالة أو ما إلى غير ذلك مما تهفو إليه الشعوب وبين اعتبار مبدأ الشورى الأساس الإسلامي للنظام السياسي في مجتمعاتنا وهو ما صك له البعض مصطلحا جديدا لتمييزها عن الديمقراطية الغربية ذات الأبعاد المخالفة للتعاليم الدينية " الديمقراطية الإسلامية ".
والأهم من ذلك هو محاولة خلق أرضية مشتركة يتم خلالها تحديد دقيق لمفهوم الديمقراطية المنشودة وعلاقات التقاطع مع الشورى واعتماد الآليات التي لا تشكل تعارضا مع الإسلام فضلا عن تسليط الضوء على التراث الفقهي والفكري الإسلامي الخاص بالجوانب السياسية وتنقية ما علق به من شوائب تراكمت بفعل أحداث تاريخية .. وهو ما يمكن معه غلق باب التبرير وتأصيل البعض للرضا بالقهر والاستسلام للاستبداد .
الديمقراطية والاستغلال
ويشارك فريق الرفض او متخذي الموقف الحذر من الديمقراطية داخل صفوف الإسلاميين العديد من الاتجاهات اليسارية التي ترى أن الديمقراطية قرينة للاستغلال الرأسمالي للفقراء أو لشعوب العالم الثالث الذي رضخ لعقود طويلة تحت نير الاحتلال الذي استنزف وما زال ثروات هذه البلدان ليوفر لشعوبه حياة الرفاهية والترف في حين لم تتمكن هذه الديمقراطية من أن تخفف العبء الملقى على كاهل هذه الشعوب المنهوبة بل إنها كانت الأداة التي استخدمت للحصول على تأييد استمرار ممارسة الإفقار .
الدعوة التي يتبناها هؤلاء هي دعوة الحرية الإنسانية بعيدا عن اللون والجنس والعقيدة دعوة تكفل لكل البشر الشعور بإنسانيتهم وقيمتهم كبشر ... وهي رؤية امتدادية للعداء الذي كان ناشبا بين المعسكر الشرقي والغربي حيث يرفض المعسكر الشرقي كل ما يأتي به الغرب أو يدعو له ومنها الديمقراطية وليدة ونمط النظام السياسي في الغرب .
الديمقراطية والحرية
ينحاز العقل تماما إلى القول بأنه لاديمقراطية بغير حرية فليس للإنسان أن يخير عند إعدامه بين الموت بالسم أو الموت بالسيف فلا معنى للديمقراطية حيئذ .. الديمقراطية الحقيقية هي أن تتوقف أي سلطة عند حدود القانون والدستور.
لا معنى للديمقراطية عندما يحيا الإنسان في وطن مقيد بل عندها تتحول الديمقراطية إلى نكتة سخيفة ووسيلة يستهدف منها المغتصب إحداث الخلل في أولويات الشعوب المحتلة .. الديمقراطية الحقيقة تأتي في ظل أوطان تنعم بالحرية .
الحرية هي الأساس لإمكانية تحقيق الديمقراطية بعدها يمكن أن تبذل هذه الشعوب من التضحيات وتحمل الابتلاءات من أجل تحقيق المجتمع الديمقراطي .
الإصرار إذن على التشدق بفرض الديمقراطية عن طريق سلب الحرية هو محاولة مفضوحة ومكشوفة لاستغلال تطلعات الشعوب المقهورة بحكم مستبديها الذين أذاقوا شعوبهم ويلات الظلم والتهميش .. لكنها كذلك محاولة أدركت الشعوب المستغلة فحواها ففوتت الفرصة وأصرت على أن يكون الحصان أمام العربة لا العربة أمام الحصان .
صراع مفتعل
لم تعد الديمقراطية لفظة تقتصر في دلالتها على ما أكتسبته من ظروف وبيئة النشأة فهي كغيرها من مصطلحات كثيرة تطورت دلالتها ومعانيها وأصبحت لا ترتبط بالدلالة الأولى إلا في بعض الوجوه .
الديمقراطية التي تهفو إليها جماهير المجتمعات الإسلامية غير موصولة الصلة بمنطلقات الديمقراطية الغربية التي تحتكم في في نهاية الأمر إلى الغالبية فحسب وإن كان ذلك قد تغير وتبدل في بعض التجارب والنماذج الغربية حتى أصبحت الديمقراطية شكل للنظام السياسي يختلف من مجتمع لآخر .
الديمقراطية أصبحت تحمل مدلولات مختلفة تم إضفائها عليها في المجتمع الإسلامي عبر عمليات المزج والاحتكاك التي جرت خلال عقود زمنية طويلة وتحولت إلى عنوان عريض تندرج تحته الكثير من الجزئيات والتفاصيل التي يمكن الاتفاق أو الاختلاف عليها ، هذا العنوان يشير بقوة إلى ما يكفل حق التداول وتطبيق الشورى وخلع الحاكم وغيرها مما يمكن ألا يمثل غضا للطرف عن المرجعية الأساسية في الإسلام ، وهو ما يمكن تحقيقه بآليات مختلفة وقد تحقق ذلك عبر نماذج لتطبيق الديمقراطية في مجتمعات إسلامية .
ولا يعد ذلك تعارضا مع مبدأ الشورى الذي هو آلية ونظام لطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم تكفل للمحكومين حق المشاركة في اتخاذ القرارات فيما توفر الديمقراطية الآليات التي تحمي هذا الحق والآليات التي تتيح للجماهير السعي وراء انتزاع الحقوق المسلوبة أو التعبير عن الرفض .
الصراع مفتعل وتأجيجه مقصود والأطراف المنتفعة بذلك معلومة وتجاوز الجدال حتما سيتم فالمطالب تتزايد والاحتياج المجتمعي يلح على ضرورة التغيير .
20:55 | Permalink | Comments (0)
The comments are closed.