Friday, 06 May 2005
التفسير الاخلاقي - طارق جابر
إذا قرأت أو سمعت أن معدلات الرشوة والسرقة والدعارة وتعاطي المخدرات إلخ قد ارتفعتأو أنها في تزايد مطرد فبإمكانك أن تعزي ذلك مباشرة إلى تدني القيم وانهيار الأخلاق وخفوت الوازع الديني، وقد تجد - ويجد معك كثيرون – أن هذا التفسير على قدر كبير من الوجاهة والمنطقية، لاسيما وأن كل العينة السابقة من أشكال الانحراف تعد بحق تنويعات على اختراق الأخلاق والقيم والمثل بما يجعلها في التحليل الأول انحرافات أخلاقية.
وإذا وقفت بنظرك عند هذا الحد وقنعت بهذا التفسير تكون قد وضعت المشكلة برمتها في إطار أخلاقي، وهذا سيفضى بك حتما بارتباط النتيجة بالسبب إلى التماس أو تصور الحل في الأخلاق بكل مصادرها ومراجعها وعلى رأسها في مجتماعتنا الدين.
هكذا تجد التفسير وراء انتشار شعارات العودة إلى الله والاسلام هو الحل كتصور مبسط لمعالجة الواقع، تصور لا يقل بساطة عن شعارات تداعي القيم وفساد الذمم واضمحلال الأخلاق كعناوين تختزل نماذج تفسيرية لظواهر هي بالأساس سياسية واقتصادية واجتماعية.
ونحن نعتقد أن هذا الانحراف التفسيري نابع بالاساس من خلط قائم بين مفهومين مختلفين موضوعيا ومعرفيا يتم تلبيس أحدهما بالآخر في صيغة تنتهي إلى أشكال التفسير المغلوطة وبالتالي الانحراف عن طريق الحلول الحقيقية والصحيحة.
المفهومان الذين نقصدهما هنا هما مفهوم الدوافع ومفهوم الضوابط، أما الدوافع التي تعتبر المحرك الأساسي للسلوك الانساني بشكل عام، ومن ثم تعتبر وقود حركة التاريخ والصراع فهي ببساطة حاجات الانسان المادية والمعنوية، بدءا من الطعام والشراب والمأوى والجنس ومرورا بحاجته إلى الأمن والحب واللهو وحتى حاجته إلى الجمال والمعرفة.
فكل حاجة من هذه الحاجات تمثل أحد الدوافع الأساسية المحركة للانسان وسلوكه والمنشئة بالتالي للصراع أو الانحراف البشري الذي لو ترك لهذه الدوافع لبلغ مداه وهدد وجود هذا المخلوق بشكل عام كما يهدد كيانه وطبيعته الانسانية المركبة، ومن هنا يأتي دور الضوابط التي تمثل الأخلاق مادتها الأساسية، سواء صدرت عن حكمة الانسان أو منطق العقل أو رسالات السماء.
في كافة الأحوال تأتي الأخلاق من منطق عقلاني بسيط مؤداه أن حياة الانسان لا يمكن أن تستقيم أو تتقدم أو تصان إذا ما تركت نهبا للدوافع المحركة لسلوكه، بمعني آخر إذا ما تركت حاجات الانسان لتحركه بلا ضابط ولا كابح، أو بلا أخلاق.
من هنا وفي ضوء التحديد السابق لمفهوم الدوافع والضوابط نعتقد أن وضع الأخلاق أو الدين موضع الدافع للسلوك الانساني يعتبر خطأ موضوعيا وخلطا بينا في المفاهيم تترتب عليه أخطاء جمة في توصيف المشاكل والحلول.
ما سبق لا يعني بالطبع أن الأخلاق لا يمكن أن تكون دافعا للسلوك الانساني على الاطلاق، لأن الحقيقة أيضا تجعلنا نقر بأن الأخلاق تلعب دور الدافع أحيانا، غير أن هذه الحالات تبقي في حدود الاستثناء والخروج على القاعدة، وقد نجازف وندعي أن هذا الاستثناء لا يحدث إلا في حالة من إثنين، الأولى هي أن تشكل الدوافع الأخرى حال اطلاقها بلا ضابط خطرا يهدد الجماعة الانسانية أو عندما يختل التوازن بين تلبية الحاجات وصيانة الفطرة البشرية القويمة، في هذه الحالة يتم شحذ الأخلاق والتركيز عليها بحث تتجاوز دور الضابط إلى دور الدافع حتى يستعيد السلوك الانساني والمجتمع البشري توازنه. والحالة الثانية هي أن تكون الأخلاق ذريعة أو غطاء لحجب الصورة القبيحة والفجة لسلوك انساني تستبد به وبحركته الحاجات بلا أي ضابط حقيقي.
نود أيضا أن نوضح أن ما نطرحه هنا لا ينفي أهمية ودور العنصر الأخلاقي في صيانة السلوك الانساني، بل العكس هو الصحيح، فنحن نقر بأنه في حالة تماثل الظروف الموضوعية المهيئة للانحراف فإن وجود وازع أخلاقي قوي لدي نموذج قد يجنبه الخطأ بقدر ما يجعل ضعف هذا الوازع نموذج آخر أكثر قابلية للوقوع فيه.
لكن المسألة هنا هي أننا لا يمكن أن نعول على الوازع الأخلاقي بعيدا عن الأسباب الموضوعية مادمنا نعالج صورة أو حقيقة كلية، وليس حالات فردية أو نماذج استثنائية، بعبارة أخرى نحن نعتقد أنه من الخطأ الموضوعي أن ننظر إلى حل مشكلة الرشوة مثلا من خلال تقوية الوازع الديني أو الأخلاقي لدى الناس، لأن من يرتشي ربما ينقصه فعلا الوازع القوي، لكن تبقي الحقيقة هي أن ما يدفعه إلى طلب الرشوة أو قبولها هو حاجته للمال لسد احتياجاته الانسانية الاساسية.
من هنا تصبح حلول المشاكل التي تبدو في ظاهرها أخلاقية كالسرقة والرشوة والبغاء والقتل ليست بالضرورة نابعة من الأخلاق أو من الدين، بقدر ما هي متوافرة في تحسين الدخول والأجور وتوفير فرص العمل وفرض القانون إلخ.
قد تبدو الفكرة بسيطة وواضحة، ولكن نماذج التفسير السائدة تنفي أن تكون على بساطتها ووضوحها تمثل قيمة مرجعية لدي السواد الأعظم من الناس، بمعنى أنه قد يتفق معك كثير من الناس أن سبب انتشار ظاهرة البغاء أو العلاقات الغير مشروعة هو الفقر أو فقدان العائل أو تأخر سن الزواج بسبب العامل الاقتصادي، وليس بسبب انحراف سلوكي جنسي لدي البغايا أو ميول الشبق وخلل الفطرة لدى بعض النساء، كما قد يتفق معك كثير من الناس في أن سبب تفشي السرقة أو المخدرات هو البطالة أو تراجع دور الأسرة ورقابتها وليس رغبة السارق أو المتعاطي الصرفة في السرقة أو التعاطي.
قد يتفق كثير من الناس حول هذه التفسيرات المنطقية، ولكن عندما ينتقل التناول من الظواهر الفردية أو الجزئية إلى الصورة الكلية للخلل ومن ثم التصور الشامل للحل فسوف تجد الكثير من الناس يضع الدين أو الأخلاق في الخلفية أو يجعل منهما الاطار العام للمشكلة والحل.
وإذا بحثت عن سبب تفك به شفرة هذا الموقف المعرفي والنموذج التفسيري فلن تجد سوى نفس فكرة الخلط بين المفاهيم بتلبيس أحدها في الآخر، على الأقل على مستوى التصورات الكلية للمشاكل والحلول.
إن ما قد لايكون واضحا وجليا في أذهان الكثيرين هو الأعمية القصوى لتحرير المفاهيم والدلالات وفق حقائق الأمور وطبائعها، ذلك أن أي قدر ولو بسيط من الخلل في هذا المستوى من التفكير تترتب عليه ظواهر كارثية في الأنساق المعرفية وقراءة المعطيات والمشكلات وتفسيرها وتصورات حلولها وعلاجها، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن افتقاد مؤشر البوصلة عن المسارات الصحيحة ليس أقل تلك الكوارث ولا آخرها، وإن كان يبقي أحد أهم أسباب تفاقم المشاكل وبقاءها بلا حل.
وقد نزعم أن هذا النموذج تحديدا من الخلط واسع الانتشار في بلادنا، وإليه نعزو تردي الكثير من أوجه حياتنا وتفاقم جل مشاكلنا.
23:40 | Permalink | Comments (0)
The comments are closed.