إعتصام ليلة صيف لزجة
تكتبها نرمين خفاجي
تصوير وائل عباس
يوم السبت الماضى 30 / 7 / 2005 كان يوما ساخنا فى تاريخ حركات التغيير
فى مصر حيث قامت الحكومة باطلاق فرق الكاراتيه لضرب مظاهرة الرفض لنصف
دستة حكم جديدة لمبارك بعد دستتين حكم من الانهيار والتدهور والاضمحلال
والتردى الى الدرك الاسفل من الفساد والتخلف والفقر والقهر والبطالة .
وقد قامت فرق الكاراتيه الارهابية بترك بصامتها و لطع العلامات على الاجساد
من كسر ضلوع و نزيف داخلى الى كدمات ملونة بكافة الوان الطيف بالاضافة
الى تكسير الكاميرات والنظارات وتمزيق الملابس وضياع الموبايلات .ولقد بدا
لى ذلك اليوم ان الحكومة قد قررت تفطسنا زى الكتاكيت وخاصة ان الجو كان
حار وخانق وتخلص علينا باسرع وقت ممكن مع الحرص على القبض على المصورين
الصحفيين ودشدشة كاميراتهم لمسح اى اثر للجريمة
ويبدو ايضا ان وزير الداخلية حلف بالطلاق ثلاثة انه ما يخليش اى مخلوق منا
يلمس ميدان التحرير برجليه ،فسدت كل الشوارع التى تؤدى الى الميدان امام
الزحف العظيم فظللنا نلف وندور ونصطدم فى نهاية كل شارع يفضى الى
الميدان بغلاسات ونطاعات رجال الداخلية .حتى ساقنا حظنا الاسود الى شارع
طلعت حرب ،اسفل مقر الحزب الناصرى وهناك رأيت الناس تجرى يمينا وشمالا
وشرقا وغربا هلعا وخوفا وفرقا وكمدا والاصابات تصرخ على الوجوه والملابس
ممزقة وفرق الكاراتيه تطارد وتضرب وتسحل كل من يمر بالشارع وهى تحمل عصى
مطاطية صغيرة لها مفعول السحر فى شل الحركة وطبع الكدمات ذات الالوان
المتعددة من الاحمر الفاتح وحتى البنفسجى الغامق . ولاول وهلة خيل الى
اننى داخل فيلم ماتريكس واصبح الناس عندى نوعان نوع حقيقى اعرفه جيدا
واراه وانا اجرى وهو يسحل ويضرب ويعتقل ونوع اخر يشبهنا فى الملامح
ولكنهم كائنات اليكترونية ذات نظرات ميتة .وبعد اقل من ثلث ساعة من
الضرب والتفطيس تم اثنائها انتزاع العديدين من حضن الشارع وحملهم هيلا
بيلا الى عربات الشرطة الحديدية المرابطة فى كل مكان بوسط البلد .
تحولت ساحة الوغى " شارع طلعت حرب " بعد ثلث ساعة الى منطقة خالية من
المارة وانتشرت على الارض آثار المعركة من فرد جزم مبعثرة على جيب او كم
قميص كاروهات وبعض الكابات وقطعة قماش ملونة تبدو طرحة لاحدى المحجبات
ويفط تمزقت تحت الاقدام ولا زالت تحتفظ بحبر يقطر رفضا لمبارك وعائلته
ونظامه اضافة الى الغنائم من الفلوس والموبايلات وغيرهما من الاشياء التى
يمكن ان تمثل قيمة للداخلية او للمارة .
وفى الحقيقة العملية كانت نضيفة مية المية ما اخدناش فى ايدين الامن غلوة
وحتى الفلول التى استطاعت ان تفلت من وحوش الكاراتيه واتجهت الى ميدان
الفلكى وشكلت مظاهرة صغيرة استطاع الامن بسرعة ان يفطسها فى دقائق قليلة
ويقبض على عدد منها.
وتعد تلك الموقعة ابرز دليل على ارهاب الدولة اللى قاعدة تعيط وتزن طوال
الوقت زى الدبانة الغلسة فى قنواتها وجرائدها وتشكو من الارهاب متناسية
ما تفعله هى ومثيلاتها من الانظمة الاستبدادية واصدقائهم من الدول
الاستعماريه بالشعوب .
ولم يعد امامنا سوى التوجه الى نقابة الصحفيين حيث سلالم النقابة المحررة
والمطوقة بجيوش الامن المركزى .
وهناك اتضحت الخسائر وعدد المعتقلين حيث تم اعتقال جورج اسحاق من على
سلم منزله وامين اسكندر من شارع طلعت حرب بالاضافة الى اكثر من ثلاثون
معتقلا معظمهم من شباب من اجل التغيير .
فاعلن الاعتصام حتى الافراج عن المعتقلين وبالفعل بدا الافراج فى البداية
عن بعض المعتقلين ومنهم جورج اسحاق وامين اسكندر واستمرار اعتقال 25
اخرون .فاستمر الاعتصام حتى الافراج الفورى عن كافة المعتقلين .وهنا خرج
علينا سكرتير مجلس نقابة الصحفيين بقرار النقابة وانها لن تسمح بالمبيت
بداخلها الا للصحفيين فقط " بصراحة كانوا جدعان معانا قوى وصمموا انهم
يبيتونا فى الهواء الطلق على السلالم علشان ما يجيلناش برد من التكييف
داخل مبنى النقابة ". و ظهر اقتراح آخر بفض الاعتصام والعودة فى الغد
للاعتصام امام النائب العام صباحا . وقوبل الاقتراح بعاصفة من الرفض
والتذمر من شباب من اجل التغيير وخاصة وان الوقت كان قد تجاوز الثانية
بعد منتصف الليل ومعظم الشباب من اماكن بعيدة بالاضافة ان معظمهم كان
بملابس ممزقة من اثر المعركة ومن الممكن اخدهم اشتباه او القبض عليهم
فرادى وعلشان ما نبقاش لقمة سائغة للامن قررنا الاعتصام حتى الصباح على
سلم النقابة وقد نجح البعض فى التسلل للمبيت داخل النقابة من ورا ظهر
الامن .
وصل عدد المعتصميين الى 200 شخص منهم 168 على سلم النقابة من جميع
التيارات السياسية باستثناء الاخوان المسلمين الذين لم يشاركوا فى
المظاهرة ولافى الاعتصام واكتفوا بالاتصال ببعضنا للاطمئنان على احوالنا كما
جاء احدهم بشكل شخصى لمدة نصف ساعة ثم انصرف .
وعلى الرغم من لزوجة اجواء الصيف الحارة وحالة الانهاك من الجرى خوفا من
فرق الكاراتيه والحزن على المظاهرة المجهضة والتى كان من المنتظر ان
تتفوق فى العدد على المظاهرات السابقة اضافة الى القلق على رفاقنا
المعتقلين وخاصة من تعرضوا للضرب الشديد اثناء الاعتقال، الا ان تصميمنا
على المبيت بعث بداخلنا طاقات جديدة ،بددت اجواء الحزن وازالت تماما
آثار التعب واصبحنا فجاة سعداء لاننا لاول مرة نصمم على استكمال اعتصام
الى الصباح.ولثقتنا بان المعتقلين لن يخرجوا الا بالضغط والتصميم على
الاعتصام بالنقابات و امام مكتب النائب العام .
وفجاة توهجت الارواح الشابة بالفرح فانطلقت الهتافات والاغانى ورفرفت
رايات التيارات المختلفة فى سماء جمهوريتنا الصغيرة الحرة امام النقابة
كما لعلعت النقاشات والثرثرات والضحكات طوال اليل واناء النهار .
وخلال الاعتصام تم التهام اكثر من الف ساندوتش و280 كوب شاى و50 كوب
نسكافيه ولم استطع ان احصل على اى احصاءات عن عدد علب السجائر المستهلكة
بالاضافة الى تورتاية عيد ميلاد نها اصغر عضو بشباب من اجل التغيير والتى
تصادف عيد ميلادها مع يوم المظاهرة وقد اطفئت الشموع بعد الهتاف بسقوط
مبارك والحرية لكل المعتقلين وكانت الاجواء تذكر باعتصامات السبعينات
وسمعت من يقول ان هذا اول اعتصام يستمر بعدد كبير من سنة 72 .
وانطلقت اغانى الشيخ امام وزياد رحبانى ومحمد منير من حناجر ملتهبة
ومتعبة فخرجت الاصوات منبوحة ومدبوحة من كثرة الهتاف والانهاك والتدخين الا
ان الشباب ما عتقش نفسه وفضل يديها اغانى وهتافات وتلويح بالرايات وخاصة
كلما مرت سيارة او بعض المارة .
وقد شاركنا الامن المركزى فى الغناء والاكل وتواصلنا معهم فى الحديث
وودعنا كل وردية بحرارة اما الضباط فقد ناموا على كراسيهم على الرصيف
المواجه وللاسف لم تكن معنا كاميرا زووم لاخذ لقطات نادرة لهم ومع كل
تغيير لورديتهم تنطلق باعلى صوت الزفة الحماسية "مع السلامة يا ابو عمة
مايلة" لتوديعهم وارتفعت وتيرة التهييس والترويش ووصلت الى الزوروة مع
استخدام الاغانى الشبابية واستدعاء روح الافراح الشعبية فى الغناء والهتاف
فارتفع صوت احد الشباب صائحا شباب من اجل التغيير بيقولوا لمبارك ايه
فيرد المهيسيين ايه .... قوم اقف وانت بتكلمنى قوم اقف بص لى وفهمنى
واستمرت الزقزقات "لاننا كنا زى العصافير" حتى النفس الاخير من حالة الصحو
ومع التعب توسد البعض الحقائب ونام .وبدأت المقالب باخذ لقطات
للنائمين .
وعلى الساعة السادسة والنصف تقريبا بدأ الجميع فى التساقط من
التعب والاجهاد وساد الصمت والسكون وغفت العيون بعد طول احمرار
...وفجاة
دوى انفجار ...بووووم ! فاستيقظ الجميع مخضوضين وهاتفين معا بمنتهى
الحماس يسقط يسقط حسنى مبارك وانفجر الضباط على الرصيف الاخر من الضحك لان
ما حدث كان انفجار لاطار سيارة تاكسى مارة امام النقابة بعدها عاد الناس
الى النوم مرة اخرى باستثناء على الذى ابى واستكبر وظل يهتف بحماس شديد
ويردد ورائه شخص واحد فقط ويقف بجانبهما احد شباب حزب الغد حاملا
راية
الغد وملوحا بها ..بصراحة ما عرفش جابوا طاقة منين . وفى الثانية عشر
اتجه الجميع الى مكتب النائب العام بملابس متسخة وممزقة ووجوه مدهولة
واجساد اتكسرت من القعدة والنوم على سلم النقابة الحجرى وقد زادنا جو
الصيف الحار واللزج بفعل الرطوبة احساسا بالاجهاد كنا نشبه مشردى
الحروب .وبدا الشباب فى الهتاف مجددا ياسيادة النائب العام الافراج
الفورى التام وانتهى الامر بالوعد بعرض المعتقلين على النيابة فى الغد
الساعة 11 صباحا . وغادرنا دارالقضاء العالى كل الى بيته للنوم واستئناف
الاعتصام فى المساء المرة دى فى نقابة المحامين والتى دعتنا للاعتصام بها.
بالفعل فى المساء استمر الاعتصام فى نقابة المحامين ولكن بعدد اقل حتى
نوفر الطاقات لحشد اكبر عدد للاعتصام فى الغد امام مكتب النائب العام .
وفى الصباح حدث اشتباك بين احد العاملين فى نقابة المحامين وهو من ذوى
الصلات الوثيقة بالامن ويبدو انه بينفذ الاوامر بالغلاسة على المعتصمين وكاد
يصل الامر الى اشتباك بالايدى لولا تدخل بعض المحامين الذين احبطوا محاولات
الامن فى التحرش بالمعتصمين .
وفى مكتب النائب العام استمر الاعتصام حتى صدر القرار بعد طول انتظار
بالافراج عن المعتقلين وتعالت الاصوات مهللة بالفرح و ممتلئة بالانتصار
وبعدها وقفنا لمدة نصف ساعة اخرى تضامنا مع زوجات المعتقلين الاسلاميين .
ثم خرجنا لاستئناف زوابع المظاهرات الثلاثاء مظاهرة الادباء والفنانين
والاربعاء مظاهرة كفاية بميدان الاوبرا والبقية تاتى .