ملف خاص
هؤلاء يردون على أكاذيب هيكل وتزييفه للوعي ولتاريخ مصر المعاصر
ردود من الإخوان والشيوعيون وأنصار القومية المصرية وحزب الوفد

جابر قميحة يرد على حديث هيكل في الجزيرة
- حادث المنشية مسرحية سيئة الإخراج
- الشهادات التاريخية تؤكد أن الحادث مفتعل

بقلم: الدكتور جابر قميحة

محمد حسنين هيكل
(يقدم هيكل حديثًا مساءً كل خميس بقناة الجزيرة، وفي حديثه مساء الخميس 15 من يونيو 2006م حمل- بالزور والأكاذيب- على الإخوان وتاريخهم، ومن ذلك زعمه وتأكيده أن الإخوان دبَّروا جناية الشروع في اغتيالِ عبد الناصر، ولم يقدِّم دليلاً على صحةِ ما زعمه أكثر من أنه قابل الجاني في السجن، ونحاول- في السطور الآتية أن نفنِّد رؤيته هذه).

يعد "تشرشل" معْلَمًا ضخمًا من معالم الأمة البريطانية، فهو الذي حقق لها أعزَّ نصرٍ في تاريخها، بل تاريخ العالم الغربي كله، وكان الرجل وقورًا بعيدَ النظر، قليلَ الكلام، وكثيرٌ من كلامه يمثل حِكَمًا أو قواعدَ عفويةً في مجال السياسة والمجتمع، وما زلت أذكر من كلماته: "أبحث عن حقيقة الأمة في حبر المطابع وصفحات الصحف"، فلما قيل له: "ولكن مِن الصحف المأجور والمرتشي؟!"، قال: إنما أعني الصحف "سيدة صوتها" لا الصحف "صوت سيدها".

ولم يبالغ السياسي البريطاني المحنَّك العجوز، فالصحف هي مرآة الأمة، وهي مصدرٌ أصيلٌ لتاريخها ونبضها ومكانها على أرض الواقع، وإن كنت "أتحفَّظ" على الشطرِ الأخير من كلامه؛ مما يدفعني إلى التعميم فأقول: أبحث عن حقيقة الأمة في صحفها حتى تلك التي تسلك سبل الكذب والزَّيف، وتعيش على "صوت سيدها"، وتضع الباطل مكان الحق، وتستحلُّ كل حرام مرفوض، فالحقيقة قد تَخفَى عامًا أو عامين، أو عقدًا أو عقدين، أو أكثر من ذلك، ولكن يأتي اليوم الذي تكشف فيه عن نفسها بالنظر الواعي والفكر البصير، وتطلُّ برأسها عاريةً صافيةً بلا خفاء أو رتوش، وصدق الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى إذ قال:
ومهما تكُنْ عندَ امرئٍ من خَلِيقةٍ- وإن خالَها تخْفى على الناسِ- تُعْلَم

فالتاريخ الحقيقي للأمة تصنعه الصفحات الطيبة الصادقة والصفحات الكاذبة المنافقة الزائفة، ومن "مجموع الصحائف الأضداد" تُستخلص الحقيقة الناصعة الشامخة، لتبقى خالدةً، ويسقط أعداؤها من الكذبة والمزيِّفين في قمامة التاريخ.

ذكرى المسرحية الساقطة
قفَز إلى ذهني هذا الخاطر وقد مضى أكثر من نصف قرن على أخسِّ مسرحيةٍ عُرضت في تاريخنا السياسي كله، والتي سموها "جريمة المنشية" أو "محاولة اغتيال الزعيم جمال عبد الناصر".. وهي مسرحية استكملت- على خسَّتها وسقوطها- المعروفَ من العناصر المسرحية أو التمثيلية، كالشخصيات المحورية والشخصيات الثانوية، والكورس أو الجوقة، والنص والسيناريو.. إلخ.

ولكن هذه المسرحية لم تنتهِ بأداء الأدوار المحفوظة، بل ظل لها "توابع"- وعفوًا يا علماء الزلازل- تتشبث بها، إلى أن كان السقوط الكبير الذي نسف المسرح والممثلين والجمهور.
أم المساخر..!!
ولتبدأ المسرحية الأم:
الزمان: مساء 26 أكتوبر 1954م.
المكان: (مسرح الأحداث): ميدان المنشية بالإسكندرية.

جمال عبد الناصر يلقي خطابه في المنشية
الشخصية والحدث الرئيسي: جمال عبد الناصر يخطب في الجمهور الكثيف الذي استورد أغلبه من عمال مديرية التحرير وموظفيها، وكان يقف في شرفة مبنى "هيئة التحرير" حزب الحكومة.
وفجأة سمع صوت رصاصات قيل إنها أطلقت على الزعيم ولكنها أخطأته، ولم يصب إلا بعض ضيوف عبد الناصر بخدوش.

وتتحول كلمات عبد الناصر إلى صرخات هستيرية، ويقبض على مَن قيل إنه أطلق الرصاص، واسمه "محمود عبد اللطيف"، وفتحت السجون أبوابها لتستقبل آلافًا من الإخوان المسلمين، والباقي معروف، وقد فصل القول فيه- بمصداقية- عدد من الكتاب العدول، منهم بعض رجال الثورة، فمحمد نجيب الذي كان رئيسًا للجمهورية كان يقسم بشرفه العسكري بأن حادث المنشية مفتعل، ومن أصدق الشهادات في هذا الحادث شهادة محمد حسن التهامي- رجل المخابرات، وعضو مجلس الثورة المعروف- الذي كتب في مجلة "روزاليوسف" المصرية بتاريخ 1/5/1978م بأن حادث المنشية مسرحية أخرجها أحد رجال المخابرات الأمريكية.

سيناريو الصحافة القومية
ونعود إلى كلمات تشرشل عن دور الصحافة في تصوير واقع الأمة، وقد جعلنا له امتدادًا يصدق على الصحافة التي هي "صوت سيدها" المسماة بالصحافة القومية "تغطي الواقعة" وتوابعها تغطيةً مفصلةً شاملة، ولكن من وجهةِ نظر سيدها، وأذيال سيدها وحوارييه.

واليوم- وقد مضى على هذه المسرحية الخائبة الخسيسة أكثر من نصف قرن- نعتذر للقارئ إذ نعيد في هذه السطور فصولها ومناظرها متتابعة تتابعًا زمنيًّا، ومنهجنا في هذا العرض يعتمد على ركيزتين هما:

1- تقديم سيناريو هذه المسرحية بنصه نقلاً عن أشهر صحيفة "قومية"، وهي صحيفة "الأهرام" القاهرية، التي كانت- وما زالت- أوسع الصحف المصرية، وربما العربية انتشارًا.

2- عدم التدخل بالتعديل أو الحذف من هذه النصوص، ولكن بالتعقيب"- في حالة الضرورة- ملتزمًا الإيجاز بقدر المستطاع.

الفصل الأول: رصاصات.. ولكن في الهواء
العناوين الرئيسية في صحيفة الأهرام في 27 أكتوبر 1954م:
- محاولة أثيمة لاغتيال الرئيس عبد الناصر.
- عامل من الإخوان يطلق عليه 8 رصاصات في ميدان المنشية.
- الرئيس ينجو من الاعتداء ويقول: إنه يهب دمه وروحه في سبيل عزة الوطن وحريته.
- القبض على الجاني بعد إنقاذه من ثورةِ الجماهير، واعتقال 3 آخرين من الإخوان.

وتحت العناوين السابقة يأتي التفصيل الآتي:
أطلق عامل ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين ثماني رصاصات على الرئيس جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية أمس، وكان الرئيس قد بدأ يخطب في الحفل الذي أقامته هيئة التحرير لتكريمه وتكريم زملائه من قادة الثورة، ولم يبلغ الجاني مأربه إذ نجا الرئيس من الرصاصات الغادرة، وقد أُصيب وزير المعارف بالسودان، والسكرتير المساعد لهيئة التحرير بعدة جراح من شظايا ألواح الزجاج التي تناثرت من أثر إطلاق الرصاص.
وعقب الرئيس عبد الناصر على الفور على محاولة اغتياله، وكان تعقيبه هائلاً رائعًا فذًّا، وأقوى من الرصاص الذي أُطلق عليه، إذ صاح- وصوته يدوي كالرعدِ في الميدان الفسيح-: "أيها المواطنون: دمي فدائكم، وفداء مصر، سأعيش من أجلكم وسأموت من أجل حريتكم وكرامتكم، فليقتلوني لستُ أبالي، ما دمتُ قد غرستُ فيكم العزة والكرامة والحرية، وإذا مات عبد الناصر فليكن كل منكم جمال عبد الناصر".

(وفي ص11 من الأهرام):
..وكان بعض من حوله يحاولون إبعاده عن المذياع ومنعه من الكلام والحركة للاطمئنان على سلامته، ولكنه كان يصيح بهم ليتركوه يخاطب مواطنيه، وانطلق في حديثه الفذ الذي لا مثيلَ له في تاريخ الوطنية والفداء، فأخذ يكرر المعاني الكريمة السامية: .. أيها الرجال.. أيها الأحرار، هذا هو جمال عبد الناصر، أنا لستُ جبانًا، أنا قمتُ من أجلكم، من أجل عزتكم وكرامتكم وحريتكم.. إن جمال عبد الناصر منكم ولكم، عشتُ لكم وسأعيش حتى أموت عاملاً من أجلكم، ومكافحًا في سبيلكم، وأموت من أجل حريتكم وكرامتكم.

وتعقيب على الفصل الأول
1- الحفل أُقيم- كما يقول الخبر- لتكريم عبد الناصر وتكريم زملائه من قادة الثورة، ولم يكن "محمد نجيب" ضمن المكرمين، مع أنه "قائد الثورة" ومعلنها، وأقرب الشخصيات إلى قلوب الشعب، وكان بين عبد الناصر ورفاقه وبين قلوب الشعب حصن منيع بعد إقالتهم لمحمد نجيب- قبل حادث المنشية بعدة أشهر- وقد أرغم الشعب هؤلاء "القادة" على إعادة محمد نجيب إلى الرئاسة مرةً أخرى.

2- كان عبد الناصر- على الرغم من هستيريةِ الصوت يتحدث حديثَ مَن يحفظ الدور جيدًا، والحوار الذاتي (الذي صدر من شخصية هي شخصية البطل)، كان متقنًا مدروسًا، يدل على أن "البطل" قد استوعب كل خطوط السيناريو قبل "رفع الستار" وبداية المسرحية.

3- كل مَن يعرف ألف باء قواعد الحراسة، وخصوصًا حراسة الرؤساء والشخصيات المهمة، يعرفون أن الخطوة الأولى التي يتخذها الحراس- في مثل هذه الحال- هي إقامة "حائط صد" بين الرئيس ومصدر الرصاص، بل "عزله" تمامًا- ولو بالقوة- عن الجمهور، وذلك لاحتمال وجود "معتد احتياطي بديل" عند إخفاقِ المحاولة الأولى، ولكن الذي حدث يقطع بوثوق الحراس، وكبار المسئولين بأنه "لا شيء" بعد سماع "صوت الرصاص"، ولكن حرصًا على استعمال متطلبات "الدور" كان لا بد من عملين لتضخيم "شخصية البطل":
الأول: ترك "المايكروفون" مفتوحًا- كأن لم يحدث شيء- لاستمرار "التواصل" بين "القائد الشجاع" والشعب لإثبات الشجاعة الفائقة، واستمالة شعبنا "الطيب" الذي يكره الغدر والعدوان.
الثاني: "محاولة بعض من حوله شده بعيدًا، ومنعه من الكلام والحركة، فتغلَّب عليهم، وباءت محاولتهم بالإخفاق، لأنه- كما يقول السيناريو- "كان أقوى من الرصاص الذي أُطلق عليه".

4- جاء في نص السيناريو: "وقد أُصيب وزير المعارف بالسودان والسكرتير المساعد لهيئة التحرير بعدةِ جراحٍ من شظايا ألواح من الزجاجِ تناثرت من أثر إطلاق الرصاص، وكانا يجلسان بالشرفة "المنصة".

والمعروف أن الرصاصة- أية رصاصة- إذا أُطلقت لا تحدث في لوحِ الزجاج إلا ثقبًا بمساحة رأس الرصاصة، ولا تؤدي إلى تحطيم "اللوح" وتطايره شظايا، ولا تفسير لما حدث إلا أن لوحًا- أو ألواح زجاج باب الشرفة أو نوافذها- قد حطمت فجأةً من الداخل بفعل فاعل "عيِّن" للقيام بهذه المهمة كواحدٍ من مقتضيات المسرحية، وجاء توقيت "التكسير" دقيقًا متفقًا مع توقيت "سماع" صوت الرصاص.

الفصل الثاني: ساعة القبض على "الجاني"!!
وأيضًا على الصفحة الأولى من الأهرام الصادر في 27 من أكتوبر 1954م (أي في اليوم التالي مباشرةً لحادث المنشية وتحت عنوان كبير نصه): (القبض على الجاني بعد إنقاذه من ثورة الجماهير، واعتقال 3 آخرين من الإخوان)، نقرأ ما يأتي بالنص:
وضبط البوليس في جيبه 7 رصاصات، وقد طاشت الرصاصات التي أطلقها على الرئيس، وأصابت المصابيح الكهربائية التي كانت منثورةً على المنصة، ولا تبعد عن المكان الذي، وقف فيه الرئيس بأكثر من 50 سنتمترًا.

وقد عُثِر في المكان الذي يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 26 ملليمترًا، وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي عُثر عليه مع المتهم، إذ إن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع المشط الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة، وكان المتهم يردِّد في ذلك الوقت أنه لم يقصد إصابة أحد، وأنه كان يطلق هذه الطلقات للتفاريح، وكان الجاني قد احتل مقعده منذ الساعات الأولى لهذا الاحتفال، وهو لا يبعد عن المنصة الرئيسة بأكثر من خمسة عشر مترًا.

تعقيب على الفصل الثاني
1- جزمت "الأهرام" أن الجاني من الإخوان المسلمين، وكذلك ثلاثة معه، ثم إن وصفه بـ"الجاني" لا المتهم- يعتبر حكمًا سابقًا على التحقيق يخالف الشريعة والقوانين الوضعية، وفي الأثر الصحيح أن صحابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسك بخناق رجل، وقال: يا رسول.. إن هذا الرجل سرق مني كذا وكذا"، فقال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم "لا تقل سرق، ولكن قل أخذ"، نعم يا رسول الله: فالمتهم بريء إلى أن تثبت إدانته، علمًا بأن أهرام 27 من أكتوبر طبعت بعد الحادث "المسرحية بساعات، وقبل بداية التحقيق.

2- وجود أربعة أظرف فارغة في المكان الذي كان يقف في "الجاني" لا يقطع بأنه هو الذي أطلق الرصاص، لأن ذلك يتسع لاحتمالات متعددة منها:
أ. أن يكون من أطلق الرصاص شخصًا آخر كان يقف مجاورًا للمتهم.
ب. أن تكون هذه الأظرف الفارغة قد وضعها شخص "له صفته الرسمية" في هذا المكان دون أن يشعر "المتهم" بوضعها، وذلك كخط من خطوط السيناريو الموضوع.

3 - ذكر السيناريو أن هذا الأظرف الفارغة لطلقات تختلف في "عيارها" عن طلقات المسدس الذي وجد مع المتهم، وهو من نوع المشط الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة:
أ. وأنا لست خبيرًا في السلاح، ولكني أقول إن أي مسدس من مسدسات المشط تلفظ الأظرف الفارغة.
ب. والسطور الباقية تعني أن "المتهم" لم يطلق رصاصة واحدة من مسدسه الذي ضبطه في جيبه، وأن هذه الأظرف الفارغة لرصاص من مسدس آخر لم يُضبط المتهم متلبسًا بإحرازه، هذه النقطة بالذات كفيلة بتبرئة المتهم (الذي ألقت عليه الأهرام صفة الجاني).

4- ونجد في هذا "السيناريو" تناقضًا واضحًا في تحديد مكان المتهم "الجاني": فالصحيفة تصفه بأنه كان واقفًا، وأنه عثر في مكان وقوفه على أربعة أظرف فارغة، وبعد أسطر قليلة تقول: "وكان الجاني قد احتل مقعده منذ الساعات الأولى لهذا الاحتفال"، وأنه كان بينه وبين المنصة ما لا يزيد عن 15 مترًا.

فهل كان المتهم واقفًا جالسًا، أو جالسًا واقفًا في وقت واحد؟ ولرفع هذا التناقض يمكن أن يقال- في مقام الاتهام- إن المتهم كان جالسًا، فلما شرع في إطلاق الرصاص وقف حتى يتمكن من إصابة "الزعيم"، وهنا تطل الناقضات المفندات الآتية:
أ. علينا أولاً أن نضع تصورًا (ولو بالممكن لا بالفعل) لمكان المتهم من المنصة، ولنأخذ التحديد الرقمي الذي ذكرته "الأهرام"، وهو أن المتهم كان يبعد عن المنصة بما لا يزيد على 15 مترًا، فلو فرضنا أن ارتفاع المنصة وهي شرفة قصر هيئة التحرير بالمنشية (ستة أمتار)، وأن وقوف عبد الناصر يبعد عن سور الشرفة بنصف متر للداخل لكان أقرب من يراه من جمهور الجالسين في الصف الأول يبعد عن الشرفة أفقيًّا بعشرة أمتار على الأقل، وهذا يعني أن المتهم كان يجلس في الصف الثاني أو الثالث على الأكثر، لو أخذنا بتحديد الأهرام لمكان المتهم.
ب. مسافة الأمتار العشرة تحت الشرفة "مسافة هالكة" أي لا يجلس فيها أحد من الجمهور، وغالبًا ما يكون رجال الحرس والأمن لهم المقام الأول فيها، ووجوههم للجمهور.
ج. لو نهض المتهم وأطلق الرصاص فجأةً لانقضًّ عليه رجال الأمن، وأمسكوا به متلبسًا بالشروع في قتل الزعيم، ولرآه عشرات من الشهود، وما كان هناك مجالٌ للظن والاجتهاد.
د. ومن النواقض كذلك أن الصفوف الأولى تكون دائمًا محجوزةً للشخصيات المهمة كالوزراء ونوابهم والمحافظين، وكبار الضباط، فإذا جاء عامل قبل بدء الحفل بساعات واحتل مقعدًا في صفوف "علية القوم وكبارهم".. ألا يثير ذلك انتباه رجال الأمن وشكهم، وقد كان ذا جيب أو جيوب منتفخة تحمل مسدسًا أو اثنين زيادة على الرصاص؟‍!!
هـ. ثم ما رأي "السادة" في الصورة التي نشرتها المصور- بعد إعلان اسم المتهم- وهي صورة تمثل آلاف الحاضرين، ووضعت دائرة حول رأس واحد منهم، وكتبت "الجاني محمود عبد اللطيف قبل ارتكاب جريمته بدقائق"، وبينه وبين المنصة ما لا يقل عن خمسين مترًا، وهذا يعني أن رصاصه كله لو أصاب "عبد الناصر" لما أصابت واحدة منها من "الزعيم" مقتلا".
وعلى ذكر المصور أقول: إن صورة غلافه في العدد المذكور كانت لمحمود عبد اللطيف وفي وجهه كدمات ظاهرة.

5- وأخيرًا نعثر في هذا الجزء من السيناريو على تناقض أو اضطراب من نوع آخر، وذلك في "الزجاج " الذي حطمته الرصاصات الطائشة، فهو مرة "ألواح" تطايرت شظاياها، ولا تكون هذه الألواح إلا في أبواب أو نوافذ، وهو مرة أخرى "زجاج مصابيح كهربائية" لا تبعد عن المكان الذي وقف فيه الرئيس بأكثر من 50 سنتمترًا.

الفصل الثالث: خديوي آدم والمسدس الساخن
وأوضح ما في الفصلين السابقين- على إتقان عبد الناصر دوره- من تهافت وضعف وثغرات تفتح الباب "للمتهم" نحو البراءة، لأن هناك سؤالاً يبقى معلقًا يحتاج إلى إجابة عاجلة، وخلاصته: إذا كان مسدس المتهم (وهو من نوع المشط) قد ضبط في جيبه دون أن يطلق منه رصاصة واحدة، وإذا كانت الفوارغ التي عثر عليها في مكان "وقوف" المتهم-وعددها أربع- إنما هي لرصاص يختلف عن رصاص المسدس الذي يحمله، وإذا كان إطلاق الرصاص حقيقة لا شك فيها، إذا كان الأمر كذلك، فأين أداة الجريمة، أي المسدس الذي أطلقت منه الرصاصات؟

هناك رأى واضعو السيناريو- حتى يَجْبُروا كسور الفصلين السابقين، ويعالجوا ما فيها من ثغرات فاضحة- أنه لا بد من فصل ثالث تقوم بأدائه شخصيةٌ أخرى من نوع مختلف، فكان "خديوي آدم" العجيب، وهو واحد من العمال الصعايدة.

وننقل سيناريو الفصل الثالث من صحيفة "الأهرام" القاهرية الصادرة يوم الثلاثاء 2 من نوفمبر 1954م، ففي الصفحة الأولى نقرأ العنوان التالي: "عامل يعثر على المسدس الذي أطلق منه الجاني الرصاص على الرئيس".

وتحت العنوان جاء ما يأتي بالحرف الواحد:
(..وهنا فوجئ "العامل" بسماع صوت المقذوفات التي أطلقها الجاني على الرئيس، وغرق هو في الازدحام، وكانت أمواج الكتل البشرية التي كانت في هرج ومرج لبعض الوقت تتقاذفه هنا وهناك، وفي تلك الأثناء شعرت قدمه بصدمة في شيء صلب، فأخذه، فإذا به مسدس، وكان المسدس ساخنًا لسع يديه ثم مضى إلى سبيله.

والمسدس من النوع الذي إذا أطلقت جميع مقذوفاته ينفتح، فأدرك آدم أنه المسدس الذي استخدم في الحادث، وقابل آدم ابن عمه واسمه "محمد جبريل"، وهو عاملٌ في أحد "جراجات" الإسكندرية، فقصَّ عليه قصته، فنصحه أن يسلِّم المسدس للمسئولين في ثكنات "مصطفى باشا"، ولكن آدم صمم أن يسلمه للرئيس جمال بنفسه يدًا بيد، فلما سأل عن الرئيس قِيل إنه سافر إلى القاهرة، فحاول أن يستريح وينام، ولكنَّ الأرق والتفكير في الحادث، وما أحاط به من ظروف في الساعات القليلة الماضية، كل هذا جعله يعتزم أمرًا، وشدَّ رحاله- كتعبير الزمن الماضي- إلى القاهرة في الساعة الرابعة صباح يوم الأربعاء 27 من أكتوبر الماضي، ولم يكن يملك مليمًا واحدًا.

ومشى الشاب بين قضبان السكك الحديدية إلى أن أخذ منه التعب ما أخذ، وشعر بالجوع، وكان قد وصل إلى سوق مدينة في الطريق لم يعرف اسمها، فباع قفطانه، وأكل وشبع، وواصل سيره حتى وصل إلى شبرا يوم الإثنين أول نوفمبر حوالي الساعة 12 ظهرًا.

وعند مدخل شبرا استفسر من أحد رجال البوليس عن مقر القيادة التي يجد فيها الرئيس جمال، ومضى في طريقه يسأل ويستفسر، حتى وصل بعد ثلاث ساعات إلى مقر القيادة العامة بالقبة، وهناك رأى الجندي الحارس، وطلب منه أن يدله على مكان الرئيس، فنهره الجندي في أول الأمر، ولكنه أفهمه بشدة أنه يحمل أداة الجريمة التي استخدمت في الاعتداء على الرئيس.

وأخرج العامل المسدس فانزعج الجندي، وأدخله إلى الضابط المسئول، فأبلغ هذا النبأ إلى المسئولين، وفي نحو الساعة التاسعة من مساء اليوم كان "آدم" في إدارة المباحث العامة، وكان الرئيس جمال بالقيادة في الجزيرة فاتصلوا به، فأمر بإرساله إليه.

وأدخلوا آدم عند الرئيس، فلما رآه هم إليه فقبله، فتأثر الرئيس وأخذه بين يديه، وقبله، ولما عرف أنه من أهل الأقصر شكره، وقال فليعش: أبناء الأقصر الكرام، وأمر بمنحه مكافأة مجزية.

وسألناه ما الذي سيفعله بهذه المكافأة؟!! فقال: "سأتجوز وأفتح محلاً"، ثم دعا للرئيس بطول العمر، ليتم خدمة الوطن.

سيناريو أمن الدولة
وفي صحيفة الأهرام الصادرة يوم الأربعاء (7 من ربيع الأول 1374هـ- 3 من نوفمبر 1954م)، نقرأ ما يأتي:
(عقد الأستاذ محمد عطية إسماعيل- المحامي العام، والأستاذ علي نور الدين- الوكيل الأول في نيابة أمن الدولة- اجتماعًا قصيرًا أمس دُعي على أثره العامل "خديوي آدم" واستمع وكيل النيابة إلى معلوماته عن عثوره على المسدس، ومما ذكره آدم في التحقيق أنه كان يقف وسط الجماهير في ميدان المنشية يستمع إلى خطاب الرئيس جمال، فسمع صوت الطلقات النارية، ثم تدافعت الجماهير، وتدافع معهم، فسقط على الأرض، وجاءت سقطته فوق المسدس، فالتقطه، وكانت ماسورته لا تزال ساخنة، فوضعه في جيبه، ثم حاول أن يصعد إلى الشرفة التي يقف الرئيس فيها ليسلمه المسدس، ولكن رجال البوليس منعوه فانصرف.

ومضى فقال إنه فكَّر أن يسلم المسدس للبوليس ليلة الحادث، ولكنه خاف، وذهب لابن عمه يروي له القصة، فنصحه بتسليمه للبوليس، وكاد يستمع لنصح ابن عمه، ولكن هاتفًا هتف في أذنه أن لا بد أن يقابل الرئيس جمال عبد الناصر، ويقبله، ثم يسلمه المسدس).

تعقيب على سيناريو الأهرام (2/11/1954م)
وسيناريو "الأهرام" في هذا الفصل أكثر تهافتًا وضعفًا من سابقيه:
1- فالسيناريو يذكر أنه بعد سماع صوت الرصاص انطلقت الجماهير إلى الخارج بعيدًا عن المنصة، وعثور العامل "خديوي آدم" على المسدس يستحيل تحققه، إلا إذا كان أقرب إلى المنصة من "المتهم" وهذا ما لم يحدث، فقد ذكرت الأهرام الصادرة يوم 27/10/1954م أن المتهم احتل مقعده في الحفل قبل بدئه بعدة ساعات.

2- في مثل هذه الأحداث يسيطر الرعب على الجماهير، ويكون هم كل شخص أن ينجوَ بنفسِه من الموت في هذا التزاحم الرهيب، ولا يكون لقدمه، أو حتى يده من الحساسية ما يجعله يتوقف، وينحني لالتقاط جسم صلب- أو غير صلب- وإلا سحقته أقدام الجماهير اللائذة بالفرار.

3- ومن مظاهر "السقوط التصويري" أن تظهر الصحيفة هذا العامل الصعيدي الفقير البسيط الذي لا يملك مليمًا واحدًا بمظهر خبير السلاح الذي يدرك أن المسدس، هو الذي أطلق في الحادث، وتظهره بمظهر الواعي ذي الفكر العميق الذي يأخذه القلق، ويستبد به الأرق، وهو يفكر في الحادث، وما أحاط به من ظروف، فيعتزم أمرًا هو الذهاب إلى القاهرة لتسليم المسدس إلى الرئيس نفسه.

4- وتقع الصحيفة في التناقض فنرى هذا العامل أحمق غبيًا إذ يقطع المسافة من الإسكندرية سيرًا على قدميه؛ "لأنه لا يملك مليمًا واحدًا" وأمام هذا السقوط وذاك التناقض علينا أن نذكر ما يأتي:
أ- كانت أجرة السفر من الإسكندرية إلى القاهرة- في ذلك الوقت بالسيارة أو القطار- لا تزيد على نصف جنيه (أي خمسين قرشًا).
ب- كان للعامل "خديوي آدم" ابن عم يقيم بالإسكندرية- كما ذكرت الأهرام- إقامة دائمة، وله عمل يدر عليه مرتبًا ثابتًا يتعيش منه، أما كان العامل يستطيع أن يقترض منه جنيهًا أو جنيهين لتكاليف هذه السفرة التي كان وراءها ما وراءها؟
ج- ثم أما كان هذا العامل- حتى لو حشى رأسه كله غباء- يدرك أن تكاليف الطعام والشراب في الطريق،- ودعك من الصحة والعافية- تمثِّل أضعاف أضعاف ثمن تذكرة السفر من الإسكندرية إلى القاهرة؟
دـ- لجأ السيناريو الخائب إلى "التزييف بالإغفال أو الحذف" فلم يقدم لنا صورة هذا العامل "خديوي آدم" بعد أن باع قفطانه، وبعد هذه المسيرة الشاقة على قدميه لمدة خمسة أيام:-
- فهو لم يكن ينام في فندق، ولا في منزل، بل على الأرصفة أو في الحقول والحدائق في البلاد والقرى التي كان يمر بها.
- وهو طبعًا- كان يقضي حاجته بصورة غير آدمية، وتعامله مع "الماء" كان قطعًا تعاملاً شاذًّا غير منتظم أو مستقيم.

إن إنسانًا قطع قرابة 250 كيلو مترًا سيرًا على قدميه، محرومًا من الطعام والشراب، إلا القليل الجاف الرديء، محرومًا من الراحة إلا سويعات، محرومًا من "آليات" النظافة صابون وماء.. مثل هذا الإنسان لن يصل إلى القاهرة إلا خائر القوى، مفكك الأوصال والأعصاب محطم العافية.. في أبشع منظر، وأقذر هيئة، وليس على جسده إلا سروال قديم، وفانلة أو صديري منتفخ الجيب بالمسدس الكبير.

هذا "المخلوق" الممسوخ يلتقي عند مدخل القاهرة من ناحية شبرا برجل بوليس، ويمشي ثلاث ساعات إلى مقر القيادة العسكرية، وفي الطريق رآه قطعًا عشرات من رجال الأمن، مع ذلك لم يُثِرْ شبهة أحد في وقت كان البريء يؤخذ فيه إلى النار بلا تهمة.

ومع ذلك نرى صورة "خديوي آدم" في الأهرام كامل الصحة والعافية، مشرق الابتسام، كامل الملبس، منتظم الهندام، وهو يسلم عبد الناصر المسدس، مع أنه قابل عبد الناصر يوم وصوله دون أن يستريح ساعةً واحدة، هكذا قالوا:

6- ثم نجد التناقض الصارخ بين "سيناريو الأهرام" المنشور بها يوم الثلاثاء 2/11/1954م، و"سيناريو التحقيق" المنشور بها أيضًا يوم الأربعاء 3/11/1954م:
أ- فسيناريو "الأهرام" يذكر أن "خديوي آدم" عثر على المسدس، عندما كانت أمواج الكتل البشرية تدفعه فاصطدمت قدمه بشيء صلب انحنى والتقطه فكان المسدس.
أما سيناريو التحقيق فيذكر أنه بسبب تدافع الجماهير سقط العامل خديوي آدم على الأرض، فجاءت سقطته فوق المسدس تمامًا، فالتقطه..!
ولم يذكر سيناريو واحد منهما أن العامل أُصيب بخدشٍ واحد، مع أن انحناءه أو سقوطه في مثل هذه الحالة له نتيجة معروفة، وهي الانسحاق تحت أقدام الجماهير الهاربة المندفعة التي لا تلوي على شيء.

7- ولم يذكر سيناريو الأهرام واقعة ذكرت في سيناريو التحقيق، وهي أن العامل لما التقط المسدس حاول أن يصعد إلى الشرفة التي يقف الرئيس عبد الناصر فيها ليسلمه المسدس، ولكن رجال البوليس منعوه فانصرف.

وهي واقعة مضحكة تتمتع بالافتعال والكذب الصراح.. ومن حقنا وحق القراء أن نسأل: متى قام العامل خديوي بمحاولة الصعود هذه؟
أ- من المستحيل أن تكون هذه المحاولة قد حدثت بعد إطلاق الرصاص مباشرة؛ لأن الجماهير كانت منطلقة هاربة في الاتجاه المضاد، ولا يستطيع أحد أن يدعي أن هذا العامل كان يستطيع اختراق هذه الكتل المندفعة، والنفوذ من خلالها إلى المنصة.
ب- وقد يتصور بعضهم أنه حاول ذلك بعد فراغ الميدان (كليًّا أو شبه كلي) من الجماهير.
وهو تصور مرفوض لأنه لو فعل ذلك لعرض نفسه للقبض عليه، وربما اتهامه بالاشتراك في "المؤامرة" لأن أنظار رجال الأمن- بعد انصراف الجماهير- تكون مركزة على مثل هذه الحالات "الفردية"، خوفًا من أن يكون ذلك محاولة جديدة للاغتيال.
ج- ثم نسأل: ألم يثر الشك في نفس واحد من الحرس ورجال الأمن، وهم يرون رجلاً "منتفخ الجيب" يحاول الصعود إلى المنصة بعد الشروع في اغتيال الزعيم بدقائق، فيقوم بتفتيشه؟ عجبي!!

وللحق أقول إن هذا الفصل الثالث من مسرحية المنشية كان أضعفها نسجًا وأداءً، وأشدها تفككًا وانحدارًا وبلاهةً وسقوطًا.

لقد قدم الفصل الثالث من هذه المسرحية ليعوض عما في الفصل الأول والثاني من قصور وثغرات، ولكنه حقق نتيجة عكسية، فصحب الفصلين السابقين معه إلى قمامة الكذب والإفك والافتراء.

هذا، وفي المكتبة العربية مؤلفات متعددة تناولت الموضوع، بعضها كتبه بعض رجال الثورة المحايدين، ولم أشأ أن استشهدَ بشيء منها لأنني حددت منهج تناولي لهذا الموضوع ابتداءً، وخلاصته التعامل المباشر مع نصوص أهم وأشهر صحيفة قومية وهي "الأهرام".

وقد ذكرت آنفًا أن هذه المسرحية كان لها توابع، وكان أهم "تابع" لها هو محاكمة الإخوان في محكمة سموها "محكمة الشعب"، وجاءت هي الأخرى لتمثل نقطة عار سوداء عفنة في سجل تاريخنا الحديث، بل على مدار تاريخنا كله.

*****

د. جابر قميحة يرد على حديث هيكل في الجزيرة (2)

استطاع عبد الناصر وحواريوه أن يدبِّروا حادثَ المنشية الذي وقع- أو قيل إنه وقع- مساء 26 من أكتوبر سنة 1954م، وقد رأينا كيف كان هذا الحادث مسرحيةً خائبةً ساقطةً، سرعان ما انكشفت أبعادها، وانفضح ما خفي وراء كواليسها، وقد رأينا في الحلقة السابقة ما في هذه المسرحية من "خَيابة" وما تمتع به ممثِّلوها ومخرِجوها من غباء فائق، ولم نعتمد في استخلاص هذه الحقائق إلا على "صحفهم القومية" وخصوصًا (الأهرام).

وقد رمى عبد الناصر وبطانته- من وراء هذه المسرحية- إلى تحقيق هدفين، هما:
1- إقالة محمد نجيب، وإخفاؤه بعيدًا عن الشارع السياسي تمامًا، وقد كان أحب الشخصيات العسكرية وأقربها إلى قلوب المصريين والسودانيين.

2- ضرب الإخوان وتصفيتهم، أو على الأقل إنهاكهم وإضعافهم وإرهابهم، وحرمانهم من "الوجود السياسي" حتى ينفرد هو "بالأرض والبساط" كما يقول المثل الهندي.

وقد نجح عبد الناصر في تحقيق الهدفين- على اختلاف في درجة النجاح- فأُقيل محمد نجيب، واختفى من الحياة السياسية معتقَلاً في "أنشاص"، وامتلأت السجون الناصرية بعشرات الآلاف من الإخوان المسلمين.

ولكنَّ هذا النجاح كان "ظاهريًّا" من ناحية وشخصيًّا من ناحية ثانية، ومؤقتًا من ناحية ثالثة، وكانت خسارة الأمة- بسبب هذه التصرفات الناصرية- فادحةً فادحةً، فضاعت السودان، وانفصلت انفصالاً أبديًّا عن مصر، وهي التي عاشت تمثل الامتداد الطبيعي لمصر، وكان السودانيون ينظرون إلى "محمد نجيب" على أنه الأمل الصادق لتوحيد شعبَي وادي النيل في وحدة سياسية واحدة.

وتوالت الهزائم النكراء على مصر في عدوانَي 1956، 1967م، واشتدَّ عود الكيان الصهيوني وأصبح أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط بعد أن غيِّب أعداؤه ومذلُّوه وهازموه من صفوة الشعب المصري وراء "الجدران الناصرية السوداء".

منهج التناول
وكان لمسرحية المنشية- كما أشرنا في الأسبوع الماضي- "توابع" بتعبير علماء الزلازل، منها الإرادي المدبَّر كعزل محمد نجيب، والمحاكمات والاعتقالات، ومنها غير الإرادي كالهزائم والانكسارات، والأزمات الخانقة التي انقضَّت على الشعب المصري، وإن كان كل أولئك نتائج طبيعية حتمية للمقدمات المنكودة التي سبقتها، وأهم التوابع "الإرادية" تشكيل مهزلة سموها "محكمة الشعب" لمحاكمة "الضالِعين" في محاولة اغتيال الزعيم، وقلب نظام الحكم، و.. و.. و..

وفي حديثنا عن هذه المحكمة المخصوصة سنتبع المنهج الذي اتبعناه في الحلقة السابقة، وخطه الرئيسي هو الاعتماد الكلي على المصادر الحكومية أو الناصرية، من صحف وكتب ونشرات، ولن نستعين بما كتبه الإخوان عن "المحن الناصرية"، وما كتبه المحايدون، حتى تقوم الحجَّة على هؤلاء العساكر أو "المناسر" الذين نجحوا نجاحًا باهرًا في تيتيم مصر.. مصر التي كانت تمثل "عرض" الأمة العربية وشرف العالم الإسلامي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

تشكيل المحكمة.. المهزلة
بعد أربعة أيام من "تمثيلية المنشية" وفي أول نوفمبر سنة 1954م نشرت (الأهرام) الصادرة في 2 نوفمبر 1954م قرارَ تشكيل "محكمة مخصوصة" ونظام هذه المحكمة وإجراءاتها، وذلك تحت عناوين ضخمة في الصفحة الأولى، ومما ذكرته بالنص:
* مادة (1) تشكيل المحكمة على الوجه الآتي:
1- قائد جناح جمال مصطفى سالم- رئيسًا.
2- قائمقام أنور السادات- عضوًا.
3- بكباشي م. ح. حسين الشافعي- عضوًا.

* مادة (2) تختص هذه المحكمة:
أ‌- بالنظر في الأفعال التي تُعتبر خيانةً للوطن أو ضد سلامته في الداخل والخارج.
ب‌- والنظر في الأفعال التي تُعتبر موجَّهةً ضد نظام الحكم الحاضر، أو ضد الأسس التي قامت عليها الثورة، ولو كانت قد وقعت قبل العمل بهذا الأمر.

ت‌- بمحاكمة كل من أخفى بنفسه أو بواسطة غيره متهمًا بارتكاب الأفعال المنصوص عليها في الفقرة السابقة، وتطلبه المحكمة، وكذلك كل مَن أعان بأي طريقة كانت على الفرار من وجه القضاء.

ث‌- بالنظر فيما يرى مجلس قيادة الثورة عرضه عليها من القضايا أيًّا كان نوعها، حتى ولو كانت منظورةً أمام المحاكم العادية، أو غيرها من جِهات التقاضي الأخرى، ما دام لم يصدر فيها حكمٌ، وتُعتبر هذه المحاكم أو الجهات متخليةً عن القضية، فتُحال إلى المحكمة المخصوصة بمجرد صدور الأمر من مجلس قيادة الثورة بذلك.

* مادة (3): يعاقَب على الأفعال التي تُعرض على المحكمة بعقوبة الإعدام، أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة أو بالسجن أو بالحبس المدة التي تقدِّرها المحكمة، أو أي عقوبات أخرى تراها المحكمة.

* ...
* مادة (5): يخطر المتهم بالتهم ويوم الجلسة بمعرفة المدعي قبل ميعادها بأربع وعشرين ساعة على الأقل، ولا يجوز تأجيل القضية أكثر من مرة واحدة، ولمدة لا تزيد على 48 ساعة للضرورة القصوى.

* مادة (6): للمحكمة أن تتبع من الإجراءات ما تراه لازمًا لسير الدعوى، ولا يجوز المعارضة في هيئة المحكمة أو أحد أعضائها.

* ...
* مادة (8): أحكام هذه المحكمة نهائية، ولا تقبل الطعن بأي طريقة من الطرق، وأمام أي جهة من الجهات، وكذلك لا يجوز الطعن في إجراءات المحاكمة أو التنفيذ.

* مادة (9): يُعمل بهذا الأمر من تاريخ صدوره (صدر في 1/11/1954م).

تعقيب..
1- اختصاصات المحكمة- كما هو واضح- واسعة جدًّا، وبلا حدود، ومن عجب أن يدخل في اختصاصها "أي قضية يرى مجلس الثورة عرضَها عليه" بصرف النظر عن موضوع القضية ونوعها، وهذا يعني أن هذا الحق- الذي أعطاه مجلس الثورة لنفسه- يتسع للأفعال البسيطة التي تدخل في مفهوم المخالفات.

2- وحتى في نطاق الأفعال المنصوص على تجريمها في المادة الثانية على سبيل الحصر نجد هذه الأفعال منفوشةً غير محددة الملامح والمعالم، مثل "الأفعال التي تُعتبر ضد الأسس التي قامت عليها الثورة".

3- تأخذ المادة الثانية برجعية القانون في التطبيق، فتنص الفقرة الثانية على سريان هذا القانون على الأفعال الإجرامية المنصوص عليها، ولو كانت صادرةً قبل صدوره، وهذا يعارض كل قواعد العدالة، فالمعروف أن القوانين تطبَّق بأثر فوري- لا أثر رجعي- ولا يؤخذ برجعية القانون إلا إذا كان ذلك في صالح المتهم، وطلاب الحقوق- على سبيل التمثيل- يدرسون أن تاجر المخدرات إذا قام بتهريبها في ظل قانون يعاقب على ذلك بالأشغال الشاقة المؤبدة، وبعد ضبطه صدر قانون يرفع العقاب إلى الإعدام، فإنه لا يعاقب إلا بما نص عليه القانون القديم، وإذا كان العكس فإنه يستفيد من القانون الجديد الذي يطبَّق عليه بأثر رجعي لأنه الأصلح له.

4- تعطي المادة الثانية (فقرة د): لمجلس الثورة- وهو سلطة تنفيذية- حق العدوان على السلطة القضائية بسلب اختصاصها، فيحيل ما يراه من قضاياها على (المحكمة المخصوصة) التي شكَّلها، واختيار هذه القضايا يعتمد على "رؤية شخصية" لا معايير موضوعية، وهو نصٌّ خطيرٌ جدًّا؛ لأنه ينسف مبدأ "الفصل بين السلطات".

5- نصت المادة الثالثة على أنواع العقوبات التي تُصدرها المحكمة (الإعدام والأشغال الشاقَّة بنوعيها والسجن والحبس)، والغريب المُفزِع أن تُذيَّل المادة بالعبارات الآتية: "أو أي عقوباتٍ أخرى تراها المحكمة"، هكذا بلا ضوابط، وهذا النص الأخير يعطي المحكمة- مثلاً- حقّ مصادرة الأموال كلها أو بعضها.

على أن هذه العبارة الأخيرة كانت تغني عن التفصيل السابق؛ لأنها- على إيجازها إجمالاً- تتسع لكل أنواع العقاب، فالمادة الثالثة كلها- إذن- مشوبةٌ بما يسمَّى "عيب الصياغة".
6- في عدد المواد تعسف وتشدد يخالفان أبسط قواعد العدالة، ومن ذلك:
أ‌- عدم تأجيل القضية إلا مرةً واحدةً، ولمدة 48 ساعة فقط، (مادة5).
ب‌- عدم جواز الاعتراض على هيئة المحكمة أو أحد أفرادها.
ت‌- عدم جواز الطعن في إجراءات المحاكمة والتنفيذ.
وإنه "القاضي المسْخرة"..!!

ومن فضول القول أَن نقرر في هذا المقام أن القاضي- أي قاض- بصرف النظر عن كونه مدنيًّا أو عسكريًّا يجب أن يتحلَّى بالوقار والاتزان والهيبة، والسماحة وسعة الصدر، وعفَّة اللسان، ومراعاة أدب الحوار مع الدفاع والمتهمين، في حكمةٍ وتأنٍّ وصبرٍ وثباتٍ، هذا زيادة- طبعًا- على العلم الواسع بالقانون بل القوانين.

ولكن "القاضي" جمال سالم كان- للحق- يتمتع بصفاتٍ هي نقيض هذه الصفات تمامًا، فظهر في كل أيام المحكمة شرسًا خفيفًا بذيء اللسان، متهوِّرًا ضيقَ الصدر، لم يراعِ مقامَ المتهمين، وفيهم: الطبيب، والقاضي، والمعلم، والواعظ العالم، والمحامي، ولم يراعِ سنَّهم وفيهم: الشيوخ، والمرضى.

ونراه يستخدم قوالب وعبارات عامية مبتذلة، وكذلك أمثالاً عاميةً مما تُسمع في الأزقَّة والحارات والمقاهي، و"غُرز" الحشيش، ونراه يتهكم على الشهود والمتهمين، ويستعدي عليهم الجمهور في قاعة المحكمة ليسخروا منهم ويسبُّوهم، ونراه مستهترًا جاهلاً جريئًا بسفوله وبذاءته على الله ورسوله وقرآنه والقيم الدينية والموروثات الإسلامية، فيفرز- بتدفق يُحسَد عليه- كلامًا يقوده بجدارة إلى الكفر والسعير.

ولم يبرأ من هذا أو بعضه المدعي العام مصطفي الهلباوي رئيس أمن الدولة، وللأسف بعض المحامين الذين وكلتهم الدولة للدفاع عن بعض المتهمين، مثل المحامي المشهور "العجيب" حمادة الناحل.

وثائق سوداء!!
ومعروفٌ أنه قدم لمحكمة "جمال سالم" عدد كبير من الإخوان، على رأسهم الإمام حسن الهضيبي وأعضاء مكتب الإرشاد، مثل الشيخ محمد فرغلي، وعبد القادر عودة، والدكتور محمد خميس حميدة، ومنهم محمود عبد اللطيف (المتهم بمحاولة اغتيال عبد الناصر)، والمحاميان إبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، ويوسف طلعت وغيرهم.. وغيرهم.

وقد نُشرت نصوص المحاكمة في الصحف التي صدرت في حينها، ثم أعادت الحكومة نشرَها في ثمانية أجزاء بعنوان "محكمة الشعب"، وسيكون اعتمادي الكلي على هذه "الوثائق الحكومية", دون غيرها من كتابات الإخوان أو غيرهم من المحايدين، وهدفنا أن يتبين القارئ المسلم حقيقةَ هذه المحاكمة وأبعاد شخصية القاضي "الفلتة" جمال سالم، ويترحَّم على ضحايا المذبحة التي تمت "بحكم قضائي" أصدره "القاضي الفلتة جمال سالم"، وطبعًا لن نستطيع أن نقدم كل ما نُشر في هذه الأجزاء الثمانية، ولكننا نقدم منها "بعض العيِّنات" التي اقتطفناها من قرابة ألفي صفحة، ونترك للقارئ أن يتبين ما تعكسه من دلالات، وذلك لا يحتاج إلى ذكاء.

عُدوان على الله ورسوله وكتابِه
الرئيس جمال سالم: إيه حكم الإسلام في هذه الفرقة (التي ينتسب إليها أبو لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب)؟!

الشاهد (محمود الحواتكي): أعتقد أن الشخص الذي قتله في النار.
جمال: سيبنا من النار والجنة؛ لأن دي مش بتاعتنا (من محضر الجلسة- محكمة الشعب ج2/215-13/11/1954م).

جمال: .. ورغم هذا عملت ثلاث فصائل؟
الشاهد (إسماعيل عبد المعز): كلها شوية تنظيمات على ورق.
جمال: ما بلتوش وشربت ميّته ليه؟!
الشاهد: أقول لسعادتك.. لسيادتك..
جمال: تقول سعادتك.. تقول سيادتك.. قول زي ما أنت عاوز.
الشاهد:..
جمال: سعادتك دي اتعلمتها من سورة آل عمران.
(من جلسة 13/11/1954م- محكمة الشعب 2/375).

جمال (للشاهد إبراهيم الطيب) : كيف يسمح المرشد حسن الهضيبي- والإسلام يحض على الاتحاد- أن يقابل الإنجليز من غير رأي الحكومة؟!
الشاهد: الذي علمته أنه أخبر..
جمال: علمت من مين؟! من حسين كمال الدين أو يوسف طلعت؟!
الشاهد: من حسين كمال الدين والمرشد نفسه.
جمال: يكونش حسين كمال الدين ربنا بتاعك، ولاَّ تعتقد بالمسيحية: God the Son God the Father يكونش الإله الرب هو الابن، والرب هو الأب، يكونش الإله الأكبر والإله الأصغر؟! (محكمة الشعب 2/541).

جمال (مخاطبًا الشاهد إبراهيم الطيب): .. واضحك عليهم، وقول لهم حريات.. شفتم المبادئ اللي بتغري؟ حريات؟! حوريات من الجنة (ضحك).
(محكمة الشعب 3/541).

جمال (للشاهد محمد خميس حميدة): وأنت راجل كنت حمامة السلام؟
الشاهد: أيوه.
جمال: ولا كنت حمامة الأيك؟
الشاهد: حاضر.
جمال: تقدر تقرأ الفاتحة بالعكس؟
الشاهد: لا.
جمال: تنفع؟
الشاهد: لا.
(محكمة الشعب 3/568).

جمال: احكِ الأُسس اللي طلبتوها لكي يقوم عليها الدستور الجديد.
الشاهد: (خميس): حرية الفرد والشورى والتكافل بين الأمة.
جمال: سمعتم أسس الإسلام يا مواطنين؟
سمعتم الأسس بتاعة الإسلام؟ التكافل ولا التكافؤ بين الأمة؟
الشاهد: تكافل يعني تعاون.
جمال: معلهش.. يمكن نكشف عليها في المختار أو في المصحف.. المصحف لما نزل لم يعتمد على مختار صحاح أو أي حاجة (محكمة الشعب 3/646).

وانتقلت العدوى إلى الدفاع
وللأسف انتقلت عدوى السفول والانحدار والتهكُّم والسخرية من الدين والرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى المحامي "حمادة الناحل" الذي وكلته الدولة "للدفاع" عن محمود عبد اللطيف، ونكتفي بقليل مما قال (وليلاحظ القارئ جهله وجهل جمال سالم- رئيس المحكمة- بالقرآن والتاريخ الإسلامي).

الدفاع: (حمادة الناحل موجِّهًا الكلام للشاهد الدكتور خميس حميدة): هل تَعتبر- كمسلم- أن الاختصاصات التي كان يزعمها النبي محمد لنفسه أكثر أم الاختصاصات التي كانت للهضيبي نفسها أكثر؟!

الشاهد: لا مقارنة بين معصوم وبين إنسان.
الدفاع: أنا لا أتكلم عن المعصومية، أنت مسلم وتدرس القرآن، وباسألك: الاختصاصات بتاعة حسن الهضيبي- كما وصفتها- هل النبي محمد أعطاها لنفسه، أو أعطاها القائمون به له؟
الشاهد: ....

الدفاع: آه... يعني كان يستشير الإخوان بجدّ أم استشارة صورية؟
الشاهد: بجد.
الدفاع: ويأخذ بمشورتهم إعمالاً للآية الآتية: ﴿وأمركم شورى بينكم﴾ (كذا)، ولا يخفى على القارئ أن صحة الآية ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (محكمة الشعب 3/683).

جمال (للشاهد خميس): تعرف ما هو الدين الإسلامي؟ تعرف لو كنت في زمن عُمَر كان عمل فيكم إيه؟ تعرف قصة الخوارج؟ قرأتها؟!

الشاهد: في أيام سيدنا علي (محكمة الشعب 3/697).
(ملاحظة: توهَّم جمال سالم أن الخوارج ظهروا أيام عمر لا علي).

وتنتقل العدوى (الجمالية السالمية) في سوء الأدب مع الله إلى المدعي مصطفى الهلباوي- رئيس نيابة أمن الدولة- فيسخر من شهادة التوحيد، فيقول في المحكمة على رؤوس الأشهاد: "أفهم أن هذه التنظيمات لا يقوم بها إلا شخص يفهم في الشئون العسكرية، ويوسف طلعت القائد العام لهذا التنظيم (التنظيم الخاص) لا يحمل من الشهادات- إن صدق- إلا شهادة لا إله إلا الله" (محكمة الشعب 4/948).

والجمهور.. أيضًا قُضاة!!
ولعشرات المرات كان جمال سالم يتجه بنظره وكلامه إلى جمهور الحاضرين، ويمكنهم من الضحك والسخرية من المتَّهمين والشهود، ويثيرهم عليهم، وعلى الدرب نفسه سار رجال الادِّعاء، والمحامي حمادة الناحل، وإلى القارئ المسلم نقدِّم "القطوف القليلة" الآتية:
جمال (للشاهد إبراهيم الطيب المحامي): التزم الحق، وإذا كنت كذوبًا، فكن ذكورًا.

الشاهد: أنا أقرر اللي أعتقده.
جمال: .. (موجِّهًا كلامه لجمهور الحاضرين): إذا كان الكلام ده غلط يا إخواني، والله أحب أن محكمة الشعب تعرف رأيكم، وتقولوا إن الكلام غلط بمنتهى الحرية والصراحة.
أحد الحاضرين: الشعب يطلب تفجير اللغم فيه (محكمة الشعب 2/467).

(ويذكر الدكتور خميس حميدة- عضو مكتب الإرشاد- في شهادته حديثًا عن الحياد، سمعه في مقابلة حضرها بين وزير الإرشاد والمرشد الإمام حسن الهضيبي)، وبعدها يدور الحوار الآتي:

جمال: فيه ناس كثير هنا.. نختار واحد.. السيد أحمد الصاوي (الصحفي).
الصاوي: أفندم.
جمال: هل تقبل هذا شرحًا للموضوع؟
الصاوي: ده كلام ضعيف وغير معقول.
جمال: نسأل واحد من اللي ما تعرفوش (ووجه سيادته كلامه إلى أحد الحاضرين).
الأخ اللي ورا.. أبو نضارة.. هل تقبل هذا الكلام شرحًا للموضوع؟
أحد الموجودين: لا أقبله، ولا أفهمه.
جمال: واحدة من السيدات، هل تقبلي هذا الكلام؟
إحدى الصحفيات: عمَّال يلف يلف يلف كده هو (وأشارت بيدها إلى حركة دائرية).
جمال: بلاش أنتي علشان أنت صحيفة، واحدة ثانية.
إحدى السيدات: كلام عايم (محكمة الشعب 3/598)

كان هذا قليلا جدًّا من كثير جدًّا، وكم يطول بنا المسار لو رُحنا نلتقط الأمثلة البشعة وما أكثرها، وكلها مسوغات وأدلة قاطعة صارخة على أن ما سُمي بـ"محكمة الشعب" كانت مهزلةً سافلةً بكل المقاييس، وقد تولَّى كِبْرها مهرِّج مجنون، وراح ضحيتَها مجموعةٌ من القمم الشامخة علمًا ورجولةً وجهادًا، ومِن يومها عاشت مصر في يُتم كئيب أليم، وتوالت عليها الضربات والانكسارات والأزمات، وإنا لله وإنا إليه راجعون

*****

لا .. يا هيكل!
عبد القادر ياسين

لا أعتقد أن اثنين في وطننا العربي يمكن أن يختلفا حول المكانة الرفيعة التي وصل إليها محمد حسنين هيكل في الكتابة السياسية، بيد أن هذه المكانة لا تؤهله لأن يفتي فيما يعرف ، وما لا يعرف.
لقد شاهدت الحلقات الثلاث الأخيرة التي قدمها هيكل في فضائية الجزيرة وعجبت لها، وكانت أولاها عن الوفد والثانية عن الإخوان، فيما خصص هيكل حلقته الثالثة للحديث عن الشيوعيين. والأنكي أن ثمة من حيا هيكل علي حلقته الأخيرة. لكن ما لنا وهذه الضجة التي يثيرها الدراويش!
لقد كشف هيكل عن جهل مطبق بتاريخ الحركة الشيوعية المصرية، فأحمد فؤاد (قاض) لم يكن ضمن جماعات من المدنيين تعاطفوا بسرعة مع الضباط، بل كان المسئول السياسي عن الضباط المنتمين لحدتو الشيوعية، وكانوا يزيدون علي ثلاثين ضابطا، ضمن تنظيم الضباط الأحرار، بما نسبته أكثر من ثلث مجموع الضباط الأحرار.
يكرر هيكل ما أثاره الرأسماليون من معاداة الشيوعيين للدين إنه معذور، فهو ينتمي لمدرسة أخبار اليوم، منذ أربعينيات القرن العشرين، بارتباطها المعروف بالولايات المتحدة!
يصل هيكل بكفره إلي الذروة، حين يقرر - دون أن يرف له جفن- أن الشيوعيين لديهم مشكلة مع الوطنية. ويتصور هيكل أن سبب ذلك تلك الأممية التي يؤمن بها الشيوعيون. ويتغافل هيكل- وربما يجهل- بأن الأممية تبدأ بالوطنية، فالأممي الجيد هو الوطني الجيد، فكل شيوعي يخوض نضاله الوطني، واضعا وحدة الطبقة العاملة العالمية في اعتباره، كما أن الأمم تحتم علي كل شيوعي بأن يأخذ بموقف الحزب الشيوعي في أي قطر بخصوص قضايا القطر المعين. أغلب الظن أن هيكل خلط - بحسن نية- بين الكوزموبوليتية وبين الأممية، حيث الأولي تتجاوز الوطنية. وهيكل معذور فهو لم يزعم بأنه ملم بالماركسية - اللينينية، لكن عدم الإلمام هذا لا يعطيه الحق في إصدار فتاوي فيما يجهل! ومن هنا لن نستطيع أن نؤاخذه علي تجرؤه علي الحق، حين يقول وإخواننا الشيوعيون الوطنية كانت لديهم تساوي التخلف سامحه الله !!
لا أدري لماذا اكتفي سيادته بالتأكيد بأن أربعينيات القرن العشرين شهدت ثلاثة تنظيمات شيوعية مصرية (الحركة المصرية- إسكرا- وتحرير الشعب)، ولا أدري لماذا أسقط هيكل التنظيمات الثلاثة الأخري (الفن والحرية/ الخبز والحرية/ وطليعة العمال)، دون أن يذكر تلك التنظيمات التي تأسست أواخر الأربعينييات (م ش م / الشيوعي المصري/ التكتل الثوري).
إلي ذلك يرفع هيكل التكليف مع علم التاريخ، حين يتحدث عن أحداث كفر الدوار، بعد أيام من قيام حركة الجيش (23/7/1952)، وهي مظاهرات مطلبية للعمال، لا أدري من أين أتي هيكل باسم السياسي اندراوس ، ولم يبلغنا لماذا لم تعمد المحكمة العسكرية إلي تقديم اندراوس للمحاكمة، مادام كان متورطا في التحريض علي أحداث كفر الدوار؟
من جهة أخري لم يكن هناك أحداث عنف عمالية في تلك الأحداث، لأن العمال شكلوا فرقا الحماية المصانع والآلات.
هنا يثور سؤال له ما يبرره : إذا كان مجلس قيادة الثورة قد رأي تثبيت الأمن، وإظهار العين الحمرة، فلماذا اختار عمالا يحتجون علي أوضاع عملهم (أجور/ ساعات عمل)، فيما تعامل ذاك المجلس بالرقة إياها مع مالك كبير، هو عدلي لملوم، الذي قاوم الإصلاح الزراعي بقوة السلاح، فعوقب بالحبس اللذيد بضعة أشهر؟!
هل نحن أمام الانحياز الطبقي لغالبية مجلس قيادة الثورة، الذي صرح رئيسه، أواخر 1954 ، في الإسماعيلية بأن ثورة يوليو تمثل الطبقة الوسطي؟!
صحيح أن عبدالناصر ظل يسحب الثورة إلي اليسار، باطراد، منذ صيف 1955، حتي انتهي بالنظام الناصري إلي نوع من الاشتراكية، لكن الثورة منذ بدايتها وإلي ربيع 1955، ظلت أسيرة نظرة وردية لزعيمة العالم الحر الامبريالية الأمريكية، وقد انتهت الثورة إلي الاشتراكية عبر الانتقاء والتجريبية.
أعجب لهيكل الذي أعاد أحكام الإعدام بحق عمال كفر الدوار، إلي اندفاع الحركات الشيوعية، وتأكيدها أنها إن لم تكن في صلب العملية السياسية، فهي قادرة علي إحداث شغب، بينما لم تكن الحركة الشيوعية وراء أي شيء من ذلك!
يستمر هيكل في اضطراب تقديراته، فيري بأن حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة العسكرية تم بتحريض من المدنيين الثلاثة في مجلس القيادة، ويعني بهم عبد الرازق السنهوري، وسليمان حافظ، وعلي ماهر.
في السياق نفسه كيف للشيوعيين أن يشاركوا في مجلس قيادة الثورة، ويحاولون تدبير انقلاب، بواسطة بعض ضباط الصف؟! ولا أدري من أين استقي الأستاذ معلوماته عن هذه الواقعة؟!
لذا لم يكن غريبا أن يقرر هيكل بأن الحركة الشيوعية العالمية انقسمت، مطلع خمسينيات القرن العشرين، الأمر الذي لم يحدث إلا مطلع الستينيات، حين اندلع الصراع الصيني- السوفيتي.
وبعد، فأعتذر للقراء لأنني اكتفيت بالحلقة الأخيرة إياها، دون خلفية يراها البعض ضرورية، عن هيكل، وسيرته السياسية، متمنيا ألا أعود إلي هذا الأمر، مرة أخري.

*****

رد علي هيكل:
لا تروجوا الوعي الزائف حول تاريخنا الوطني
د.أحمـد القصـير

الشيوعيون المصريون غرسوا روح الانتماء للوطن وصاغوا ثقافة وطنية
كمال عبد الحليم وعبد الرحمن الشرقاوي وفؤاد حداد وصلاح جاهين طلائع مغردة بالوطنية وحب الوطن
خالد محي الدين وأحمد فؤاد وضعا برنامج تنظيم الضباط الأحرار في أوائل 1951 ثم قام التنظيم بإقراره
أحمد حمروش عضو اللجنة المركزية لحدتو كان مسؤولا سياسيا لقسم الجيش والقاضي احمد فؤاد مسؤولا للتثقيف
وشوقي فهمي حسين صول الطيران مسؤولا للتنظيم
الشيوعيون دعموا نشاط تنظيم الضباط الأحرار وأسهموا في تنفيذ ثورة يوليو
حديث هيكل بأن الشيوعين حاولوا عمل انقلاب مزاعم باطلة
حدتو قررت حل قسم الجيش عند تحولها للمعارضة بعد إلغاء الدستور والأحزاب في مطلع 1953
حدتو أسهمت في بعض ملامح النظام الجديد مثل قانون الإصلاح الزراعي ومنع الفصل التعسفي

أبطال الوطنية:
حديث هيكل الأخير من خلال قناة الجزيرة عن الشيوعيين المصريين قاصر وخاطئ ومتحيز ويخالف الحقائق التاريخية. وهو يثير صراعا بين قوي وطنية ويفتح نوافذ للشقاق نحن في غني عنها. ومن الغريب أن يصدر مثل ذلك الحديث عن كاتب كبير بحجم هيكل. فقد تجاهل الإسهامات الوطنية والثقافية العديدة للشيوعيين المصريين. وهو ما يخلق وعيا زائفا بالتاريخ. فلم يكن هيكل موضوعيا في حديثه، وبذر الكثير من التصورات الخاطئة مما جعل وقائع التاريخ تظهر علي غير حقيقتها. ومن مخاطر تلك التصورات أن القارئ أو المستمع تعود أن يعتبر صاحبها من المصادر الموثوق بها وأنه كان قريبا من صناعة القرار. لقد بذر هيكل في حديثه علي قناة الجزيرة والذي نشرته صحيفتي العربي والأسبوع القاهريتين يوم 25 يونيو 2006 الكثير من الغبار وتجاهل التاريخ الحقيقي لثورة يوليو وكيف ظهرت إلي الوجود. وقد أهال ذلك الحديث الركام علي أنصع الأدوار الوطنية للشيوعيين المصريين في أربعينات وخمسينات القرن العشرين. كما أنكر دورهم الوطني واجتهاداتهم الفكرية التي صاغت الجانب الأساسي من الثقافة الوطنية وبثت روح الانتماء للوطن وأسهمت في تشكيل الوجدان العام خاصة في منتصف القرن العشرين.

طرح هيكل ما يتناقض مع تلك الحقائق وزعم أن الشيوعيين لديهم مشكلة مع الوطنية وأن الوطنية تساوي التخلف عند الشيوعيين.. وإن مثل ذلك القول الغريب يتجاهل أن أفضل ما قدمه الشيوعيون المصريون هو إسهامهم بفاعلية في الحركة الوطنية بدءا من نشاط اللجنة الوطنية للطلبة والعمال وإصدار صحف ومجلات مثل الفجر الجديد والضمير والجماهير في الأربعينات. وفي الخمسنات تواصل أيضا إصدار الصحف والمجلات كما برز النشاط السياسي في مجال الدعوة لإلغاء معاهدة 1936 والمناداة بالاستقلال والابتعاد عن الأحلاف العسكرية. كما تم حشد قوي وطنية مختلفة في حركة نشطة للسلام. وباختصار كانوا في قلب حركة وطنية متصاعدة في أربعينات وخمسينات القرن العشرين. وشهدت تلك الفترة إلغاء معاهدة 1936 وبدء الكفاح المسلح في القناة. وقد تعاون عبد الناصر شخصيا مع الشيوعيين في تلك الفترة وقدم لهم السلاح والذخيرة.. لكننا نلاحظ أن الحركة الوطنية غير موجودة في حديث هيكل، وتبدو القوي الوطنية الفاعلة ومن بينها الشيوعيين غائبة. كما غاب أيضا المجال الثقافي الفكري الذي تميزت به تلك الفترة التي قدم فيها الشيوعيون المصريون إبداعهم الفني والثقافي المتميز الذي أصبح من المكونات الأساسية للثقافة المصرية الحديثة. كما قاموا بأنفسهم بخلق وسائل نشر تلك الثقافة.

ولم يتوقف ذلك التصاعد للحركة الوطنية إلا بحريق القاهرة في يناير 1952 وإقالة حكومة الوفد برئاسة مصطفي النحاس وفتح المعتقلات.

إننا نتساءل: كيف استطاع هيكل أن يتجاهل أن أبرز المثقفين الشيوعيين خاصة الشعراء كانوا أكثر دعاة الانتماء الوطني والوطنية. وهل يمكن لأي إنسان أن يتجاهل علي سبيل المثال شعر كمال عبد الحليم صاحب ديوان "إصرار" ونشيد "دع سمائي" أو أن يغفل الأعمال الرائدة لعبد الرحمن الشرقاوي وشعره؟ وهل يمكن لأي قارئ لتاريخ مصر السياسي والثقافي الحديث أن يتجاهل أن فؤاد حداد وصلاح جاهين هما أبرز الذين تغنوا بالوطن والوطنية. لقد أصبحت أعمال كل هؤلاء جزءا حيا من تراث مصر الوطني والثقافي والفني. إنهم أنبل النساك في محراب الوطن. وهم دعاة من نوع نادر للوطنية وليسوا شيئا هامشيا. وسيظل التاريخ يذكرهم ويتغني الناس بأعمالهم.. إن من يقول أن الوطنية عند الشيوعيين تساوي التخلف أو أن الشيوعيين لديهم مشكلة مع الوطنية إنما يبتعد كثيرا عن الحقيقة. وينبغي التنويه بأن جميع الشعراء الذين تحدثنا عنهم باعتزاز الآن كانوا أعضاء بمكتب الأدباء والفنانين التابع للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني التي يرمز لها باسم "حدتو".

أخطاء جسيمة لهيكل:
أخطأ هيكل خطأ جسيما وتجني علي التاريخ عندما زعم أن الشيوعيين المصريين كانوا الأبعد عن ثورة يوليو وأن حركتهم ولدت ميتة. فلا يمكن للتاريخ أن يغفل أن حدتو، وهي التنظيم الشيوعي الأكبر والأكثر تاثيرا، كانت الشريك الأساسي في ثورة 23 يوليو 1952 شئنا أم أبينا. وبدأت تلك الشراكة من بداية تشكيل تنظيم الضباط الأحرار ومشاركة خالد محي الدين مع عبد الناصر في تأسيس ذلك التنظيم مع عدد ضئيل جدا من زملائهم الضباط. كما قام خالد محي الدين بالاشتراك مع القاضي أحمد فؤاد بصياغة برنامج تنظيم الضباط الأحرار الذي أقرته قيادة التنظيم. ولا بد من التنويه بأن أحمد فؤاد كان في ذلك الحين مسؤولا عن التثقيف بلجنة قسم الجيش التابعة لحدتو والتي كان أحمد حمروش مسؤولها السياسي بينما كان شوقي فهمي حسين، وهو صول بسلاح الطيران، مسؤولها التنظيمي.. وشمل ذلك البرنامج عدة بنود أبرزها ما يلي:

1 ـ إقامة جبهة وطنية من القوي والأحزاب الوطنية ضد الاستعمار والقصر؛
2 ـ رفض الأحلاف العسكرية وإلغاء معاهدة 1936؛
3 ـ السماح بترقية الجنود إلي رتبة الضباط؛
4 ـ تحقيق عدالة اجتماعية وحياة ديمقراطية سليمة.

وعندما تم وضع النقاط الست المشهورة في عام 1954 تم الاستناد إلي هذا البرنامج، ولكن حدثت تغييرات في بعض المفهومات ارتباطا بالتطورات التي جرت في مسار الثورة بعد أحداث مارس 1954.

شاركت حدتو أيضا في كتابة منشورات الضباط الأحرار وطباعتها وتوزيعها. وكان أحمد فؤاد يأخذ موافقة عبد الناصر علي المنشورات التي يكتبها أعضاء حدتو قبل طباعتها وتوزيعها. كما شاركت بدور رئيسي في عملية تنفيذ الثورة أو حركة الجيش حسبما كانت تسمي في البداية. ومن المعلومات المعروفة جيدا أن يوسف صديق عضو حدتو هو الذي قام بالدور الأساسي عند التنفيذ حيث قام بالاستيلاء علي قيادة الجيش. كما تولي أحمد حمروش الذي كان عضوا باللجنة المركزية لحدتو مسؤولية السيطرة علي حامية الاسكندرية بتكليف من عبد الناصر.

تجاهل هيكل في حديثه علي قناة الجزيرة كل هذه الحقائق التاريخية ونسب للشيوعيين أشياء أخري. فقد قال دون وجه حق إن الشيوعيين دخلوا في الأسابيع التالية لثورة يوليو اختبارين الأول مؤسف والآخر مضحك. وأضاف بإن المؤسف هو مشاركة الشيوعيين في الاضطرابات العمالية في كفر الدوار وأنهم وجدوا فرصة لإحداث شغب وأن المضحك هو أنهم حاولوا القيام بانقلاب. وهذه الأقوال لا علاقة لها بالواقع للأسف الشديد. ولا يجوز أن تصدر عن كاتب كبير من المفترض أن يدقق فيما يقول. فقد كانت حدتو موجودة علي أرض الواقع، ولا تحتاج للقيام بمشاغبات. وهي مع مطالب العمال الذين شكلوا بالفعل لجان لحماية المصانع. وقد شاركت حدتو في عملية التوعية لحماية المصانع عندما حدثت أضرار. بل ذهبت عناصر شيوعية من خارج الشركة لدعوة العمال بأن يحرصوا علي حماية المصانع والمنشآت من أي محاولات لتخريبها. واستخدم عبد المنعم الغزالي، وهو من أعضاء المكتب العمالي بحدتو، ميكروفونا ودعا العمال إلي المحافظة علي المنشآت وحمايتها. وربما لا يعرف هيكل مثل هذه المعلومات، لكن ذلك لا يبيح له أن يجمع بين الشيوعيين ورجال الملك في تلك الأحداث. كما لا يبيح لأحد القول أنهم وجدوا فرصة لإحداث شغب.

بذلت حدتو جهودا لعدم تفاقم الأحداث ولحماية المنشآت، كما وقفت مع قادة العمال خميس والبقري وطالبت بعدم إعدامهم وأوضحت أنهم غير مسؤولين عن الأضرار التي حدثت. وصوت خالد محي الدين ويوسف صديق و جمال عبد الناصر في مجلس قيادة الثورة ضد إعدام قادة العمال. ولكن أغلبية مجلس قيادة الثورة كان مع الإعدام وتم تنفيذه.

وتخطت حدتو بعض الأثار السلبية لهذه الأزمة، واستمر أسهامها في وضع بعض ملامح النظام الجديد. وشمل ذلك العمل من أجل عودة الحياة البرلمانية وإصدار قوانين توفر بعض المكاسب الاجتماعية. وقد أفضت التطورات إلي فشل المحاولات الرامية إلي عودة الحياة البرلمانية. فقد قرر مجلس قيادة الثورة في يناير 1953 إلغاء الدستور وحل الأحزاب السياسية. وهنا قدم يوسف صديق عضو حدتو استقالته من مجلس قيادة الثورة احتجاجا علي تلك القرارات التي رأي أنها تتعارض مع الأهداف التي قامت الثورة من أجلها. واستمر خالد محي الدين بالمجلس إلي أن استقال بعد ذلك في أوائل أبريل 1954 بعد الأزمة السياسية الشهيرة حول قضية الديمقراطية التي حدثت في مارس 1954.

إن استعراض ما جري من تطورات يبين بوضوح مدي ابتعاد هيكل عن الواقع وحقائق التاريخ. فقد أخطأ حينما قال إن الشيوعيين كانوا بعيدين عن ثورة يوليو وأنهم غير مؤهلين للمشاركة في توليد النظام الجديد. وتشير التطورات الواقعية إلي الدور الهام الذي قام به الشيوعيون. وهو ما يدل علي عدم صحة القول بهامشيتهم. فقد كان خالد محي الدين ويوسف صديق أحد قطبي الصراع في قيادة الثورة حول شكل الحكم والنظام الجديد. وكانا يعبران عن توجهات الشيوعيين في حدتو علي وجه التحديد. وكان جمال عبد الناصر يقف معهما في البداية إلى أن إنحاز بعد ذلك إلي الجانب المضاد فيما يتعلق بالديمقراطية، لكنه لم يتنازل عن توجهاته الاجتماعية.

وينبغي التنويه بأن الرجال الثلاثة الذين قال هيكل أنهم أشرفوا علي ولادة النظام الجديد كانوا يقفون في واقع الأمر، وبدرجات متفاوتة، ضد الديمقراطية. كما كان بعضهم ضد الاصلاحات الاجتماعية أيضا. والرجال الثلاثة هم علي ماهر رئيس الوزراء وسليمان حافظ والسنهوري وهما من رجال القانون. وكان علي ماهر لا يريد إصدار قانون الإصلاح الزراعي.

لكن قانون الإصلاح الزراعي صدر في 9 سبتمبر 1952. وشاركت في صياغته القوي التي قال عنها هيكل أنها هامشية. وهنا نتساءل هل لا يعلم هيكل أن إعداد قانون الإصلاح الزراعي الذي صدر في سبتمبر 1952 تم بعيدا عن الثلاثة الذي وصفهم بأنهم خبراء توليد النظام الجديد. لقد قام بإعداد ذلك القانون القاضي أحمد فؤاد والدكتور راشد البراوي ومعهم جمال سالم عضو مجلس قيادة الثورة. وكان أحمد حمروش هو الذي قام بناء علي اتصال من القيادة بمقابلة راشد البراوي بالاسكندرية وانتقل معه إلي القاهرة لكي يشارك البراوي في إعداد ذلك القانون. وللعلم فإن راشد البراوي هو مترجم الجزء الأول من كتاب "رأس المال" لماركس، ومختارات لانجلز بعنوان "التفسير المادي للتاريخ"، وكتاب لينين "الاستعمار أعلي مراحل الرأسمالية"، وكتاب لوينتيف عن "الاقتصاد السياسي".. ألا يستحق هؤلاء أن يضمهم هيكل إلي خبراء التوليد في الجانب الاجتماعي الاقتصادي علي الأقل؟ فلا يجوز أن نتجاهل أي قوي شاركت في تحديد بعض الملامح الأساسية للنظام الجديد.

لقد تم إعداد قانون الإصلاح الزراعي بعيدا عن الشخصيات الثلاثة الذين تحدث عنهم هيكل علي الرغم من أن بينهم كبار رجال القانون. وقد أجهد هيكل نفسه في الحديث عنهم في حلقات سابقة من خلال عرضه لمذكرات أحدهم هو سليمان حافظ. غير أن ذلك العرض لم يكن دقيقا أحيانا. ومثال ذلك ما يتعلق بحديثه عن فكرة الاستعانة بفتحي رضوان لأنه يستطيع التفاهم مع الضباط الشبان؛ فقد قال استنادا إلي تلك المذكرات أن فتحي رضوان كان أنذاك في المعتقل ضمن ثلاثة شخصيات. وأضاف بأن الشخص الثاني هو فؤاد سراج الدين أما الشخص الثالث فلا يتذكر اسمه. لكن اسم ذلك الشخص وهو يوسف حلمي ظهر علي الشاسة بجانب اسمي فتحي رضوان وفؤاد سراج الدين بصفحة المذكرات التي كانت أمام هيكل. ويوسف حلمي محام وشخصية سياسية شهيرة، وكان ينتمي إلي الحزب الوطني الجديد أي حزب فتحي رضوان. كما كان سكرتيرا للجنة أنصار السلام وعلي علاقة وطيدة بحدتو.

لعب خالد محي الدين دورا إيجابيا في الفترة التي قضاها في عضوية مجلس قيادة الثورة بعد استقالة يوسف صديق. ومثال ذلك إصراره علي تحريم الفصل التعسفي. وقد أقر مجلس قيادة الثورة في مارس 1953 قانونا يبيح الفصل التعسفي للعمال رغم المعارضة الشديدة من جانب خالد محي الدين. ولذلك قام بتقديم استقالته احتجاجا. فاضطر المجلس إلي إعادة مناقشة القانون وتقرر منع الفصل التعسفي. وقد كانت هناك قوي خارج الجيش تساند توجهات خالد محي الدين. ولم تكن قوي هامشية.. ولا جدال في أننا نحتاج إلي تسجيل تلك الحقائق لأن غيابها يتيح الفرصة لانتشار الوعي الزائف حول التاريخ.

كان سلاح الفرسان متأثرا بالتوجهات السياسية لخالد محي الدين. وقد طالب هذا السلاح في مارس 1954 بالديمقراطية، أي الغاء الرقابة علي الصحف وإلغاء الأحكام العرفية وإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية تنعقد في يوليو 1954. وظل ضباط السلاح في اجتماع ممتد لعدة أيام وذهب جمال عبد الناصر لمناقشتهم. لكنهم أصروا علي مواقفهم. فذهب عبد الناصر للاجتماع بمجلس قيادة الثورة وأصدروا قرارات 25 مارس 1954 الشهيرة التي قضت بعودة الرئيس محمد نجيب وحل مجلس الثورة وتشكيل وزارة انتقالية برئاسة خالد محي الدين لاجراء انتخابات لجمعية تأسيسيه لتضع دستورا دائما. لكن سرعان ما تراجع المجلس عن قراره وتم محاصرة سلاح الفرسان وحلقت الطائرات فوقه. وقد دعا يوسف صديق خلال تلك الأزمة إلي تشكيل حكومة جبهة تضم الشيوعيين والوفد وقوي أخري. وجاء ذلك في مذكرة قدمها شخصيا إلي الرئيس محمد نجيب ونشرتها صحيفة المصري في صفحتها الأولي.

حول الانقلاب الشيوعي المزعوم:
كيف يزعم هيكل أن الشيوعيين حاولوا القيام بانقلاب؟ وربما لا يعلم مثلا أن حدتو أوقفت نشاطها في الجيش بمجرد تحولها إلي المعارضة في أعقاب إلغاء الأحزاب والدستور في يناير 1953. فقد أصدرت اللجنة المركزية لحدتو بعد تلك التطورات وانتقالها من التأييد إلي المعارضة قرارا بحل قسم الجيش التابع لها الذي كان علي رأسه أحمد حمروش. وبالتالي لم يكن لهذا القسم وجود أو نشاط عند حدوث أزمة مارس 1954 ولا عند تذمر بعض ضباط سلاح الفرسان بعد استقالة خالد محي الدين من مجلس قيادة الثورة في إبريل 1954 وسفره إلي خارج البلاد. وقد تمت محاكمة أولئك الضباط لمجرد تذمرهم وشعورهم بالاضطهاد ودون حدوث أي تحرك من جانبهم. ويري خالد محي الدين أن النية كانت مبيتة لتصفية سلاح الفرسان.

وتجدر الإشارة إلي أن قسم الجيش التابع لحدتو كان لا يزال موجودا عند تذمر ضباط سلاح المدفعية في أوائل عام 1953. وقد تم اعتقال أحمد حمروش في تلك الفترة. ولم توجه له أي تهمة وقابله عبد الناصر بعد الإقراج عنه. وقد حدثت تلك الاعتقالات في أعقاب مطالبة بعض ضباط سلاح المدفعية بالديمقراطية واحتجاجهم علي تصرفات شخصية لكل من عبد المنعم ابراهيم وأنور السادات عضوي مجلس قيادة الثورة. وقد احتجت حدتو علي اعتقال حمروش بمنشور وقصيدة لكمال عبد الحليم. وقام عبد الناصر بعرض نسخة من المنشور والقصيدة علي حمروش بعد الافراج عنه قائلا: إيه رايك؟ يعني إحنا مش وطنيين ولا إيه؟

ركزت حدتو بعد تحولها إلي المعارضة علي تشكيل جبهة وطنية ديمقراطية. وكانت هذه الدعوة من أسباب اعتقال قادتها بالسجن الحربي وتعذيبهم وتقديم قضيتهم إلي محكمة الثورة، لكن جري تحويلها خلال أزمة مارس 1954 إلي محكمة عسكرية برئاسة الدجوي. وقد تغيرت هذه المعارضة فيما بعد إلي التأييد مع انعقاد مؤتمر باندونج وسياسة عدم الانحياز التي اتبعها عبد الناصر. إن التطورات والأحداث التي تعرضنا لها تبين بوضوح خطأ مزاعم هيكل القائلة بهامشية الشيوعيين وعدم قدرتهم علي التأثير.

محاولات تشويش أخري:
استخدم هيكل أكثر من وسيلة في محاولته تشويه التاريخ. وقال مثلا أن الشيوعيين المصريين كانوا يخضعون لتوجيهات الحزب البلغاري. وهو زعم خاطئ. فلم تكن لأي منظمة شيوعية مصرية علاقة بأحزاب خارجية. بل إن حدتو وهي أكبر منظمة شيوعية مصرية وأكثرها تأثيرا شاركت في ثورة 23 يوليو 1952 وأيدتها بينما كانت تعارضها الحركات الشيوعية علي نطاق العالم. كما أن هيكل استخدم مثلا اسم هنري كورييل كبعبع للتشويش علي الحركة الشيوعية من جانب واختزل الحركة الشيوعية في شخصه من جانب آخر. وكأنه أراد بذلك حجب الأنظار عن عدد كبير من القادة والكوادر الذين أسهموا في الحركة الوطنية وفي وضع جدول أعمالها.

وأذكر من بين هذه الأسماء شهدي عطية، كمال عبدالحليم، أنور عبد الملك، أحمد حمروش، أحمد رشدي صالح، عبد العظيم أنيس، علي الراعي، عبد المعبود الجبيلي، عبد الرحمن الشرقاوي، عبد الرحمن الخميسي، صلاح حافظ، نعمان عاشور، يوسف إدريس، محمد النبوي، محمد يوسف الجندي، نبيل الهلالي، شريف حتاته، جمال غالي، مصطفي كامل منيب، مصطفي سويف، مصطفي طيبة، ابراهيم عبدالحليم، أحمد الرفاعي، زكي مراد، أبوسيف يوسف، داوود عزيز، أسعد حليم، محمود أمين العالم، محمود توفيق، محمد سيد أحمد، عبد المنعم الغزالي، ابراهيم المناسترلي، عبد المنعم شتلة، مصطفي هيكل، عبد العزيز بيومي، أحمد صادق سعد، حمدي عبد الجواد، سعد رحمي، ابراهيم عامر، سعد زهران، حلمي ياسين، محمد خليل قاسم، مبارك عبده فضل، جمال النجاري، عدلي جرجس، فوزي جرجس، يوسف درويش، فؤاد حبشي، فخري لبيب، فوزي حبشي، وظريف عبد الله بالإضافة إلي عدد آخر من القيادات والكوادر. كما ضمت قائمة الكوادر النسائية: انجي أفلاطون، لطيفة الزيـات، حكمت الغـزالي، فاطمة زكي، صفية فهمي، ثريا سعيد أدهم، وداد متري، إحسان سعيد أدهم وأخريات. وكانت هناك أيضا قيادات عمالية مثل أحمد طه، طه سعد عثمان، محمد علي عامر، محمد شطا، محمود العسكري، ويوسف المدرك وغيرهم.

كما تميز نشاط الشيوعيين المصريين خاصة حدتو بوجود مجموعة متميزة من الفنانين والأدباء وضعوا بصماتهم في المجالات الثقافية والفنية في مصر. ونذكر هنا أسماء بعض الأدباء والفنانين الذين ارتبطوا بمكتب الأدباء والفنانين التابع لحدتو وهم: حسن فؤاد، وحسن التلمساني، وجمال السجيني، وجمال كامل، ، وزهدي، وصلاح حافظ، وصلاح جاهين، وعبد الرحمن الخميسي، وعبد الرحمن الشرقاوي، وعبد المنعم القصاص، وعبد الغني أبوالعينين، وفؤاد حداد، ويوسف إدريس. وكان كمال عبد الحليم هو المسؤول عن ذلك المكتب. وينبغي التنويه أن جميع القيادات والكوادر التي أشرنا إليها آنفا تمثل الجيل الأول فقط. ولا تشمل الجيل الثاني من ناحية العمر. أي أن القائمة لا تضم مثلا الجيل الذي انتمي إليه شخصيا أو ينتمي إليه رفعت السعيد علي سبيل المثال. فإن كوادر الجيل الثاني أكثر عددا بكثير من الجيل الأول وتنتمي إلي مناطق جغرافية أوسع نطاقا.

كان علينا أن نذكر جميع هؤلاء تكريما لهم من جانب وحتي يعرف الجميع أن القادة والكوادر الذين ساهموا في العمل الوطني كانوا بغير حصر. وقد لعب جميع هؤلاء أدوارا رئيسية في الحياة السياسية والثقافية، وتركوا بصماتهم في الحركة الوطنية والعمالية والحركة الثقافية والفنية. وقد قاموا جميعا بأدوار تاريخية بينما كان كورييل لا يزال في مصر. وقد تجاهل هيكل كل ذلك وأراد أن يختزل الشيوعيين في هنري كورييل أو شخصين آخرين.

قصورمعلومات هيكل:
إن معلومات هيكل عن الشيوعيين المصريين تتسم بالقصور الشديد. ويبدو بعضها أقرب ما يكون إلي الحواديت التي ليس لها علاقة بالواقع. وهذه مسألة تدعو إلي الاستغراب الشديد. فإن حدتو مثلا تشكلت عام 1947 بينما يقول هيكل أن ذلك حدث بعد ثورة يوليو. وهو ما يوحي بأنها كانت غير موجودة عند قيام ثورة يوليو ومن ثم لم تشارك فيها. ولم يقتصر القصور علي ذلك الأمر. بل قال، علي سبيل المثال، وطبقا للنص الذي نشرته صحيفة العربي إنه بعد الحرب العالمية الثانية بقليل وفي إطار النضج الوطني المتسارع كان هناك حركة حزب شيوعي مصري .. وبدأ يدخل في الحركة رجال بقيمة اسماعيل صبري عبد الله، وفؤاد مرسي، وأبوسيف يوسف.. ثم انضم إليهم بعد ذلك شيوعيون من أفضل الناس مثل نبيل الهلالي ومحمد سيد أحمد.

إن هذا السرد غير دقيق علي الإطلاق ولا يستند إلي معلومات تاريخية صائبة علي الرغم مما يحتويه من مديح لبعض الشخصيات وليس للحركة الشيوعية. فقد تأسس الحزب المصري عام 1950 بينما قال هيكل أنه ظهر بعد الحرب العالمية الثانية بقليل. كما أن معلومات هيكل خاطئة أيضا حتي بالنسبة للأشخاص الذين كان يعرفهم شخصيا وتعامل معهم مثل محمد سيد احمد وأبو سيف يوسف. فإن أبوسيف يوسف علي سبيل المثال ارتبط بالنشاط الشيوعي وبرز دوره قبل تأسيس الحزب الشيوعي المصري بسنوات وقبل رجوع اسماعيل صبري وفؤاد مرسي من فرنسا. وظل مرتبطا بتنظيم طليعة العمال وقيادته حتي وحدة 8 يناير 1958. ولم يشترك في عمل حزبي مع اسماعيل صبري وفؤاد مرسي إلا في يناير 1958. كما أن نبيل الهلالي ومحمد سيد احمد شاركا في النشاط الشيوعي أيضا في فترة سابقة علي تاسيس الحزب المصري. فقد عاصرا فترة أسكرا ثم فترة تأسيس حدتو وما بعدها. وقد عمل محمد سيد احمد علي سبيل المثال في صحيفة الجماهير التي كان يرأس تحريرها شهدي عطية. وكانت تصدر في البداية عن تنظيم أسكرا ثم عن حدتو بعد الوحدة في عام 1947 بين اسكرا والحركة المصرية للتحرر الوطني.

البعبع الذي حاول هكيل تخويفنا به:
قال هيكل إن كورييل قتل نتيجة اتصاله بالارهابيين في أوروبا فرنسا وايطاليا وألمانيا. وهذا كلام غير صحيح. فأسباب اغتياله معروفة وتعود إلي دعمه لاستقلال الجزائر وحركات التحرر الوطني بما في ذلك جنوب أفريقيا. إن محاولة هيكل استخدام كورييل كبعبع للتشويش علي الشيوعيين والهجوم علي تاريخهم وتخويفهم هي محاولة فاشلة.. وينبغي أن أسرد هنا بعض المعلومات المتوفرة عنه والتي تحسب له. وينبغي التنويه أولا بأن هيكل زعم بأن كورييل لا يعرف اللغة العربية وهو ما يجافي الحقيقة. ولا ندري لماذا يردد هيكل مثل ذلك الزعم أم أنه قصد بذلك إضفاء بعض الصفات الغريبة علي البعبع الذي استخدمه.. وليس من المعقول أيضا أن هيكل لا يعرف، وهو الذي يبدو حريصا علي التدقيق التاريخي، أن كورييل أبلغ مصر بخطة العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956. وعلاوة علي ذلك فإن كورييل وزملائه في فرنسا قاموا بإبلاغ مصر بمؤامرة لاغتيال عبد الناصر عند زيارته ليوغسلافيا. وتم إرسال المعلومات عن تلك المؤامرة في رسالة مشفرة إلي السفارة المصرية في روما لكن لم يتمكنوا من حل الشفرة فانتقل أحد زملاء كورييل وهو يوسف حزان من باريس إلي روما لتوصيل الرسالة شخصيا.

وينبغي التنويه أيضا بأن كورييل قام بالتعاون مع بعض الفرنسيين بتقديم الدعم للثورة الجزائرية. لذلك تم اعتقاله عام 1960 بفرنسا مع الثوار الجزائريين وأفرج عنه معهم في 1962 بعد الإعلان عن اتفاقيات ايفيان بين جبهة التحرير وفرنسا. كما أن عملية اغتياله شارك فيها أكثر من جهاز للمخابرات من بينها المخابرات الفرنسية. وكان سبب الاغتيال تأسيسه بعد الإفراج عنه عام 1962 منظمة تضامن لدعم حركات التحرر. وسبقت اغتياله عملية تحريض قامت بها عدة جهات من بينها صحيفة لوبوان الفرنسية.. كانت علاقات كورييل طيبه مع الرئيس الجزائري أحمد من بلا. كما كانت الجزائر تقدم الدعم لمنظمة تضامن. وعلاوة علي ذلك كان بشير بومعزة يمثل أحمد بن بلا في المنظمة. وتعبر زيارة بن بلا لوالدة كورييل بالقاهرة عندما حضر إلي مصر عن طبيعة العلاقة مع كورييل ومنظمته. وعلاوة علي ذلك فإن كورييل تبرع بمنزله في الزمالك دون مقابل للجزائر وأصبح مقرا لسفارتها بالقاهرة.

وربما لا يعلم هيكل أنه بعد إبعاد كورييل من مصر في 21 أغسطس 1950 تولي المسؤولية السياسية لحدتو سيد سليمان رفاعي وهو أحد الفنيين السابقين في سلاح الطيران. وكان معه في اللجنة المركزية لحدتو أنذاك شخصيات مثل الشاعر كمال عبد الحليم، أحمد حمروش، أحمد الرفاعي، أحمد طه، زكي مراد، شريف حتاته، محمد يوسف الجندي، مبارك عبده فضل، ومحمد شطا.

كانت هذه القيادة هي التي قامت بنشاط واسع مميز فيما يمكن تسميتة نهضة وطنية.. كما قامت هذه القيادة، بالرغم من بعض أوجه القصور، بأدوار سياسية وفكرية هامة. كما كانت تنسق مع تنظيمات شيوعية أخري. وقامت بأعمال شاركت فيها بعض الشخصيات العامة وشخصيات أخري تنتمي إلي أحزاب سياسية مثل الوفد والحزب الوطني الجديد أي حزب فتحي رضوان. وكان من بين الشخصيات الوفدية التي تعاونت معها أبوبكر حمدي سيف النصر، وابراهيم طلعت، وعزيز فهمي، وحنفي الشريف، ومصطفي موسي. كما كان بين الشخصيات التي تعاونت معها في نشاط سياسي وثقافي من الحزب الوطني الجديد أحمد صادق عزام، وسعد كامل، ويوسف حلمي. وكانت صحيفة الملايين من أهم مجالات التعاون مع أحمد صادق عزام، كما كانت الكاتب من بين مجالات التعاون بين حدتو ويوسف حلمي. وقد رأس تحريرها سعد كامل بينما كان الفنان حسن فؤاد سكرتيرا للتحرير. كما حشدت حدتو في حركة السلام شخصيات بارزة مثل كامل البنداري، وحفني محمود، ومحمد محمود غالي، وسيزا نبراوي.

علاوة علي ذلك كانت حدتو في قلب حركة سياسية عامة تقدمية الطابع شارك فيها زعماء أحزاب مثل فتحي رضوان وأحمد حسين علاوة علي شخصيات بارزة تنتمي إلي مجالات مختلفة. وكان بين هذه الشخصيات علي سبيل المثال الدكتور عبد الرازق حسن أستاذ الاقتصاد البارز، والدكتور محمد مندور السياسي والناقد الشهير، وأحمد كامل التلمساني المخرج السينمائي، وعبد السلام الشريف الأستاذ بكلية الفنون.

وتميز نشاط حدتو بالقدرة علي حشد طاقات القوي الوطنية لخوض معارك ناجحة. ومثال ذلك الحملة التي أسقطت التشريعات المقيدة للصحافة والحريات عام 1951 التي حاولت حكومة الوفد تمريرها بعد أن قدمها للبرلمان النائب الوفدي اسطفان باسيلي. فقد أصدرت حدتوعددا خاصا من صحيفة الملايين في 12 صفحة بتاريخ 29 يوليو 1951. وشارك بالكتابة في هذا العدد ممثلو عدد من النقابات والهيئات ونواب وفديون وشخصيات وفدية بارزة من بينهم أحمد ابوالفتح رئيس تحرير صحيفة المصري الوفدية، والدكتور عزيز فهمي وهو شخصية سياسية وفدية ومحام بارز، وحسين صدقي من الطليعة الوفدية. كما شارك في العدد أيضا عدد من المحامين من بينهم أحمد شوقي الخطيب ومحمد أحمد العصرة وعبد الهزيز بيومي، ويوسف حلمي.

كما شاركت في نفس العدد من الملايين شخصيات مثل كامل البنداري باشا، وأحمد قاسم جودة بك، ومحمد زكي غبد القادر، وفتحي الرملي، وكامل الشناوي. وعلاوة علي ذلك نشرت الملايين في نفس العدد بيانات لبعض النقابات العمالية. كما نشرت صورة بيان أصدرته عشرون نقابة عمالية عنوانه "نصف مليون عامل يدرأون عن الصحافة اعتداء الحكومة". كان ما جري نشره بالملايين يعبر عن حركة عامة تجسدت في جبهة وطنية دافعت عن الصحافة والحريات العامة نجحت في إسقاط تلك تشريعات سيئة السمعة.

تحققت آنذاك انطلاقه مميزة عن طريق نشاط واسع النطاق في عدة مجالات. وشمل ذلك النشاط تأسيس حركة السلام وإصدار الكاتب وصحيفة الملايين ثم مجلة الغد التي صدرت بعد قيام ثورة يوليو. ويجب التذكير بأن ذلك النشاط شمل إبداع ثقافة وطنية تقدمية أسهمت في صياغة الوجدان العام. كما أوجدت وسائل لنشر تلك الثقافة. وكانت الكاتب علي سبيل المثال هي التي نشرت عام 1951 أول قصائد صلاح جاهين بالعامية. كما نشرت قبل ذلك أشعار فؤاد حداد قبل أن تقوم "دار الفن الحديث" بنشر ديوانه "أحرار وراء القضبان" عام 1952. وكانت حدتو هي التي أسست تلك الدار. كما كانت قيادة حدتو التي تحدثنا عنها وراء الاشتراك المميز في مظاهرة إلغاء المعاهدة التي سار فيها مصطفي النحاس رئيس وزراء مصر أنذاك يوم 13 نوفمبر 1951 والتي ظهرت فيها الأعمال الفنية المميزة لمجموعة كبيرة من الفنانين المرتبطين بمكتب الأدباء والفنانين التابع لحدتو كان في مقدمتهم الفنان جمال السجيني. ولا ينبغي أن ننسي في النهاية التذكير بأن من بين الأعمال الهامة لحدتو في تلك الفترة أيضا قيامها بدعم تنظيم الضباط الأحرار فكريا وعمليا والمشاركة بالدور الرئسي في تحقيق ثورة يوليو.. لقد وضع الشيوعيون المصريون بصماتهم الواضحة علي تلك الحقبة شئنا أم أبينا.

*****

هيكل والحركة الشيوعية المصرية:
قراءة علمية أم موقف سياسى؟!
محمود أمين العالم


فى مدخل نشر جريدة الأسبوع لحديث الأستاذ هيكل فى إذاعة الجزيرة حول الحركة الشيوعية المصرية، يبادر السيد أحمد بديوى الذى أعد الحديث للنشر بالإشارة إلى كورييل اليهودى باعتباره مفتى اليسار ومؤسس الشيوعية فى مصر، ومنشئ أول تجمع شيوعى بها وأنه عند قيام الثورة كان مؤسس الشيوعية ومفتى اليسار على صلات قوية مفتوحة على المخابرات الإسرائيلية - ثم لا يلبث الصحفى - المفروض أن يكون ناقلا لحديث الأستاذ هيكل - أن يتساءل قبل أن يبدأ الحديث بتقديم: هل يحق للشيوعيين الغضب من هيكل؟! ليغضبوا أو لا يغضبوا، لكن تعليقه على الأجواء التى ولدت فيها الحركة الشيوعية فى مصر كان كاشفا وواضحا وفاضحا!!. ثم يبدأ فى تقديم الحديث!!
ولو أن هذا السيد الصحفى ناقل الحديث قام بالتعبير عن رأيه وحكمه هذا فى نهاية الحديث لكان حكما شخصيا جائرا أما أن يقوم بتقييم الحديث على هذا النحو الفاحش قبل قراءة القراء له، فهو توجيه وتقييم مسبق للحديث، وهو عمل على الأقل غير لائق صحفيا وأخلاقيا، على أنه يحمد للسيد بديوى نشره للحديث نشرا دقيقا على خلاف ما نشر فى جرائد أخرى..
والحق والمؤسف معا، إنه قد فاتنى الاستماع إلى حديث الأستاذ هيكل عن الحركة الشيوعية المصرية، ولهذا حرصت أن أقرأه منشورا فى أكثر من جريدة توخيا للدقة..
على أن الذى فاجأنى بل فجعنى منذ البداية، أن الأستاذ هيكل يتحدث عن الحركة الشيوعية المصرية كأنما هى حركة نشأت فى منتصف القرن العشرين، وإنها نشأت كلها فى أوساط يهودية..
تقييم معيب
ولنضع جانبا هذه النشأة المزعومة فى أوساط يهودية، ونقف عند هذا التحديد القاطع الغريب للنشأة الأولى للحركة الشيوعية المصرية، فما أعتقد أن الأستاذ هيكل لا يعرف - وهناك العديد من المراجع فى هذا - أن البدايات الأولى للحركة الشيوعية المصرية ترجع إلى أواخر القرن التاسع عشر! نعم أعرف أن الأستاذ هيكل فى أحاديثه السابقة كان مركزا على المرحلة الوسطى من القرن العشرين، ولكن هذا لا يبرر أبدا - وهو رجل التأريخ المحقق المدقق - أن يتجاهل فى تقييمه للحركة الشيوعية المصرية أكثر من نصف قرن على نشأة هذه الحركة بمستويات مختلفة وألا يكون ذلك تقييما معيبا تنقصه الموضوعية على الأقل! وخاصة عندما يكون حديثنا حول نشأة الحركة الشيوعية المصرية!؟ وما أكثر المراجع التى عرفها بغير شك هيكل فى توثيق ذلك لعلى أكتفى بالإشارة على السفر الضخم المتعدد الأجزاء للأستاذ الدكتور رفعت السعيد تاريخ الحركة الشيوعية المصرية الذى يعرض جزؤه الأول لتاريخ هذه الحركة من عام 1900 إلى 1940وإلى جزئه الثالث، تاريخ الحركة الشيوعية المصرية من 1940 إلى 1950 وما أكثر المراجع الأخرى حسبى أن أكتفى بالإشارة إلى العددين الحادى والثانى عشر من سلسلة كتاب قضايا فكريةالمعنون سبعون عاما على الحركة الشيوعية المصرية الصادر عام 1992، فهذا العدد زاخر بدراسات موثقة حول الأنشطة المختلفة الوطنية و الديمقراطية والثقافية والفكرية للحركة - الشيوعية المصرية فى هذه المرحلة المبكرة لنشأة الحركة الشيوعية المصرية، وأخص بالذكر مقالة الدكتور رفعت السعيد الحركة الشيوعية المصرية عبر سبعين عاما ومقالة الأستاذ الدكتور عاصم الدسوقى المشروع الوطنى والاجتماعى فى برنامج الحزب الشيوعى المصرى فى العشرينيات ومقالة الباحث العظيم فى تاريخ الطبقة العاملة المصرية الفقيد العزيز أمين عز الدين تجديد الفكر حول نشوء الحزب الاشتراكى المصرى عام 1921 إلى غير ذلك من دراسات حول الحركة الشيوعية المصرية.. إبداعا فكريا ونشاطا عمليا وعلاقاتها العميقة بالعمال والفلاحين والمثقفين، فضلا عن النشاط الوطنى عامة ضد الاحتلال البريطانى والسلطة الملكية والتخلف الاجتماعى عامة.
ومما هو جدير بالذكر فإن قيام الحركة الشيوعية المصرية عام 1921 كان تحت اسم الحزب الاشتراكى المصرى ثم تحول إلى اسم الحزب الشيوعى المصرى وإن لم تختلف فيه المواقف النظرية والأنشطة العملية، وبرزت فيه أسماء لأرفع مفكرى ومثقفى مصر فى هذه المرحلة مثل محمود عزمى وسلامة موسى وعلى العنانى ومحمد عبد الله العنانى والشيخ عبد اللطيف بخيت والشيخ صفوان أبو الفتح وعصام حفنى ناصف ومحمود حسنى العرابى ونقولا حداد، وأحب أن أضيف اسم عامل بسيط مناضل من أعضاء هذا الحزب القديم هو شعبان عبد الحافظ الذى اعتقل فى الستينيات ومات بين أيدينا فى سجن المحاريق فى الواحات الخارجة.
وأحرص على الإشارة ذات الدلالة إلى فقرة فى برنامج الحزب الشيوعى المصرى الصادر عام 1931 تدعو إلى النضال من أجل تحرير كل الشعوب العربية من القهر الاستعمارى ومن أجل وحدة عربية شاملة تنتظم كل الشعوب العربية.
موقف مستقل
ومن الأمور الجديرة بالذكر كذلك ذات الدلالة الوطنية أن الحزب الشيوعى المصرى تم قبوله عضوا فى الدولية الشيوعية التى كان يقودها الاتحاد السوفيتى، ونتيجة لهذا طولبت قيادة الحزب الشيوعى المصرى بقطع علاقتها التحالفية التى كانت قائمة بمستوى أو بآخر آنذاك مع حزب الوفد، ولكن قيادة الحزب الشيوعى المصرى رفضت ذلك، فتم فصل الحزب الشيوعى المصرى من عضوية الدولية الشيوعية، على أنه من المؤسف أن تقوم حكومة الوفد بقيادة سعد زغلول بضغط من المحتل البريطانى بإلغاء مشروعية وجود الحزب الشيوعى المصرى واعتقال بعض قادته ومن بينهم الشيخ صفوان أبو الفتح على أن الحزب الشيوعى المصرى واصل وجوده ونشاطه سريا إلى ما يقرب من أواخر الثلاثينيات.. وكان يصدر آنذاك نشرة خاصة هى مجلة الحساب واكتفى هنا بالإشارة إلى موقف لهذا الحزب له دلالته فى هذه المرحلة من انعدام مشروعيته، هو نقده الحاد لقبول لطفى السيد المشاركة فى الاحتفال بإقامة جامعة عبرانية فى فلسطين آنذاك.
الخلاصة المجتزأة لما أردت تأكيده هى أن الحزب الشيوعى المصرى لم يتشكل فى منتصف القرن العشرين بل بدأ نشاطه مبكرا منذ أواخر القرن التاسع عشر، ثم تشكل تنظيميا فى بداية العشرينيات من القرن العشرين.
ونعود إلى حديث الأستاذ هيكل وأكتفى منه بمناقشة مقولته الرئيسية فيه وهى عدم صلاحية الشيوعيين المصريين للقيام بدور التحرير المصرى، لماذا أيها الأستاذ الفاضل؟ فيكون الرد: بسب تبنيهم للتفسير المادى الجدلى للتاريخ، لأن هذا التفسير ينكر الدين الذى لا سبيل إلى إنكاره.
شيوعى..وحافظ القرآن
وهنا ليسمح لى الأستاذ الكبير أنه فى تفسيره للمادية الجدلية ويضاف إليها منهجيا التاريخية، يكاد يفهمها باعتبارها مجرد فهم مادى للواقع، بل يكاد يفهم المادى فهما حرفيا باعتباره ما هو جامد لا يتحرك بذاته وخال من الذاتية والحيوية! وهذا فهم محدود وضيق للغاية للمادية، وخاصة إذا أضيف إليها صفة الجدلية التى تعنى التفاعل والتداخل والتصارع، فضلا عن التاريخية التى تعنى الحركة والتغير المتصل، ولهذا مثلا يمكن بل يتم فعلا تطبيق المنهج المادى الجدلى التاريخى على النص الأدبى أو النص الفنى التشكيلى، فجوهر القول بالمادية الجدلية هو رفض ودحض المادية الثابتة الجامدة، والحرص على ربطهما بما يشبه العلاقات التفاعلية ذات التأثيرات المتبادلة، فإذا أضفنا الصفة التاريخية، فإننا ننتقل بها إلى مرحلة أبعد وأعمق وأقرب إلى مفهوم التطوير والتغيير والتجديد والإبداع والتجاوز إلى غير ذلك، وما أعتقد أن هذه الرؤية تتناقض فى شيء مع الدين حتى بالنسبة لثوابته المطلقة، ذلك لأن التعامل الإنسانى مع هذه الثوابت لا يقف عند رؤية جامدة، بل ينمو ويتطور أو يختلف منهج أدائه باختلاف المكان والزمان والأحوال، بحسب هذا النص القصصى العظيم بحسب المنهج المادى الجدلى التاريخى، هذا هو اجتهادى الموضوعى بل والعملى.
هناك بالطبع من يستخدمون هذا المنهج المادى الجدلى التاريخى استخدما تنقصه الجدلية والتاريخية، وهو سقوط فى الجمود لا فى الفكر السياسى فقط بل فى الفكر العلمى والاجتماعى والاقتصادى بل والدينى كذلك.
وليسمح لى الأستاذ الفاضل أن أؤكد له أن كلماتى هذه ليست تبريرية، بل تعبر عن منهجية موضوعية، وخبرات عملية حية.
إن العديد من الأحزاب الشيوعية فى العالم التى تتبنى منهج المادية الجدلية التاريخية مثل الحزب الشيوعى الإيطالى فضلا عن الكثير غيره من الأحزاب الشيوعية، تمتلئ عضويتهم بالمؤمنين المتدينين حقا وصدقا، بل يرون فى شيوعيتهم تحقيقا للقيم الدينية العليا، وليسمح لى الأستاذ هيكل أن أحكى له حكاية عامل زراعى كان يضرب ضربا مبرحا فى مأساة دخول الشيوعيين واستقبالهم فى سجن أوردى ليمان أبو زعبل فى الستينيات، كان يسأل أثناء عملية الضرب: أنت شيوعى يا ولد؟ وكان رده المتكرر رغم الألم الشديد: أيوة شيوعى والله شيوعى وحافظ القرآن. ولعل الأستاذ هيكل قد بلغه قيام الشيوعيين فى سجن المحاريق فى الواحات الخارجة ببناء مسجد جميل للغاية هناك بفضل مشاركة بعض الرفاق المهندسين والفنانين، وقام الرفاق بالصلاة فيه مع مشاركة حراسهم من جنود السجن، وكان إمامهم فى الصلاة وخطيبهم الرفيق محمد عمارة، قبل أن يغادر السجن ويغادر توجهه الشيوعى ويصبح من أبرز الدعاة الدينيين اليوم، وعلى هذا فالمادية الجدلية التاريخية لا تدعو إلى رؤية أحادية جامدة أو إلحادية وليست مناقضة للفكر الدينى فى تفتحه العقلانى على الحياة والمصلحة الإنسانية فى تجددها وتطورها.
بدون جيش أحمر!
إن الماركسية كمذهب اجتماعى فكرى ليست ضد الدين وإنما ضد استخدام الدين استخداما سلطويا مصلحيا ضيقا، ولعل الحروب الصليبية فى المسيحية، وسياسات بعض الدول الإسلامية قديما وحديثا، وخاصة أثناء الحكم الأموى، وضرب الكعبة بالمنجنيق وغير ذلك أن تكون من أبرز معالم استخدام الدين استخداما متناقضا مع قيمه الروحية وما أكثر الأمثلة وفى تقديرى أن موقف السلطة السوفيتية من الكنيسة الروسية كان خطأ، وإن كان يفسر بالعلاقة الحميمة التى كانت قائمة بين هذه الكنسية والسلطة القيصرية.
وينقلنا الأستاذ هيكل إلى حجة أخرى فى دحضه لقدرة الحركة الشيوعية المصرية، على تجاوز أى هامش فكرى أو ثقافى أو سياسى أو اجتماعى فى المجتمع المصرى، فهناك - كما يقول - شروط عينية موضوعية لانتشار الشيوعية وهى:
1- رأسمالية كبيرة
2- طبقة عاملة متسعة متوافرة فنحن كنا - كما يقول - ولا نزال بصدد مجتمعات ريفية مازالت تنمو - وفضلا عن هذا - كما يقول كذلك فلم يحدث فى العالم كله أن قام الشيوعيون بدور أساسى فى إنشاء نظام أو إنشاد دولة إلا وكان وراءهم الجيش الأحمر على أن مصدر هذه الاستحالة فى تصور الأستاذ هيكل هى أن الحركة الشيوعية وقيامها ونشاطها يعنى مباشرة إقامة نظام شيوعى بالسمات المطلقة للنظام الشيوعى بحسب التعريف الراديكالى له! والحقيقة أن مهمة أى حزب شيوعى فى أى بلد تختلف باختلاف الظروف والأحوال المحلية الوطنية والاجتماعية والعالمية..
ففى أمريكا الجنوبية تقوم اليوم دول وحكومات وأنظمة ذات توجه اشتراكى عام برغم أنها على مقربة من الوحش الإمبريالى الخطير المتمثل فى الولايات المتحدة الأمريكية وليس هناك جيش أحمر سوفيتى ينهض لمساعدتهم وما أكثر الأمثلة المختلفة فى الخبرات السياسية والاجتماعية المعاصرة، بل هناك ما يسمى اليوم بالعولمة البديلة التى تحتشد بقوى وطنية وديمقراطية واجتماعية وتقدمية واشتراكية وشيوعية لمواجهة الهيمنة الأمريكية وإقامة عالم إنسانى جديد تتنوع تجاربه وملابساته القومية الخاصة، ولكن تلتقى فيه وبه إمكانات تحقيق وحدة إنسانية تحترم الاختلافات والخصوصيات القومية، وتتعاون فى مواجهة التحديات والعقبات التى تعوق التطور الإنسانى بل تهدد الحضارة الإنسانية عامة.
ولهذا يبقى السؤال الحاسم الذى يسأله الأستاذ هيكل عن مدى قدرة التغيير الذى يسعى إليه الشيوعيون فى مصر؟
لعل الكلمات السابقة لا تذهب إلى القول بإقامة نظام شيوعى سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى فى مصر فورا، ولهذا فسؤال الأستاذ هيكل،منذ النشأة بالمريبين مثل كورييل إلى المخلصين مثل أبو سيف يوسف وإسماعيل صبرى وفؤاد مرسى، والهلالى هل كان الشيوعيون يقدرون؟
والإجابة على سؤال الأستاذ هيكل إن قصرناه على المخلصين هى نعم بل قدروا هم ومئات غيرهم من المثقفين بل من مختلف الفئات الاجتماعية المصرية الأخرى. حقا لم يقدروا بعد على التغيير فى بنية السلطة، ولكنهم استطاعوا أن يضيفوا الكثير إلى وجدان الأمة المصرية، فكريا وسياسيا وأدبيا وفنيا، ولكنهم لم يتمكنوا بعد من التغيير الهيكلى للبنية السلطوية والاجتماعية، بل لعل القضية المحتدمة فى مصر هذه الأيام هى هذه القضية، التى أخذت تتعمق كذلك شعبيا و جماهيريا وحركيا وعندما كنت أسير فى جنازة فقيدنا العزيز العظيم نبيل الهلالى وأسمع هتافات عميقة حارة حول كفاح الشعب المصرى، وكفاح الطبقة العاملة المصرية، وكفاح الشيوعيين المصريين كنت أستشعر أنهم لم يموتوا بل يتجددون فى نضال أجيال شابة واعية تواصل الطريق، أما السؤال عن المريبين من أمثال كورييل، ففى تقديرى أن الأستاذ هيكل يبالغ فى قيمته وتأثيره فى تاريخ النضال المصرى سلبا أو إيجابا، وأخشى أن تنعكس هذه المبالغة ظلما على رفاق مصريين يهود من خيرة الشيوعيين المصريين.
لعل الرفيق يوسف درويش الذى فقدناه منذ أيام أن يكون واحدا منهم، ولعلى أضيف إليه اسم شحاتة هارون وصادق سعد وغيرهما ممن تغيب أسماؤهم عن ذهنى فضلا عن الأحياء من اليهود المصريين الشيوعيين الذين يمثلون قيما رفيعة، وطنيا وإنسانيا.
أما كورييل فأذكر أنه عندما تحقق فى الخمسينيات حلم وحدة أغلب التنظيمات الشيوعية المصرية باستثناء تنظيمين تم انضمامها بعد أشهر قليلة،وتوحدت بهذا الحركة الشيوعية المصرية بكل تنظيماتها، ففى هذا الاجتماع الأول، كان أول قراراته الاجتماعية استبعاد كورييل من الحركة الشيوعية المصرية، وكان بالفعل قد انفصل عنها وغادر مصر إلى أن مات بعد ذلك ميتة مريبة فى فرنسا، ولهذا من التعسف بل من الإساءة للحركة الشيوعية المصرية ذات الجذور الشعبية العميقة عمالا وفلاحين ومثقفين أن يتم تقليصها وتشويهها بنسبتها نشأة وتاريخا ومصيرا إلى اسم شخص أو نحلة دينية محددة خارج حدود نسيجها وتاريخها الوطنى والشعبى والثقافى.
لماذا.. الاستبعاد؟
تبقى قضية أخرى أحرص على توضيحها فقد جاءت مبهمة فى حديث الأستاذ هيكل هى قضية العلاقة بين ثورة يوليو والحركة الشيوعية المصرية، ذلك أن انطباعى عن حديث الأستاذ هيكل فى قراءتى له، إنه كانت هناك ثورة يوليو من ناحية والحركة الشيوعية المصرية من ناحية عندما قامت الثورة فى عام 1952، والواقع أن هذه الثنائية فى العلاقة بين الثورة والحركة غير دقيقة.
قد ينطبق هذا على العلاقة بين الثورة وتنظيمات شيوعية ما كان أكثرها فى تلك المرحلة، والواقع أن الحركة الشيوعية المصرية، متمثلة فى القيادة العسكرية للثورة، وفى العديد من بنيتها العسكرية نفسها خاصة، وقد تمثل هذا فى تشكيل قيادتها فى البداية ولكن سرعان ما نشب الخلاف بين قيادة الثورة والحركة الشيوعية ولعل أسلوب تحقيق الوحدة المصرية السورية ونقد الحركة الشيوعية المصرية لهذا الأسلوب فضلا عن استمرار القيود على ديمقراطية العمل السياسى كان وراء هذا الخلاف وتفاقمه.
على أنى مع احترامى وتقديرى لما يمثله الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل من قيمة كبيرة فى تاريخنا المعاصر، مشاركا فيه مفكرا ومفسرا من داخله ومؤرخا ذا رؤية خاصة، نختلف أو نتفق معها، أجد نفسى فى النهاية متسائلا: ما سر هذه المحاولة الفكرية - السياسية وراء هذا القطع الحاسم فى حديث الأستاذ هيكل الذى يستبعد قدرة الحركة الشيوعية المصرية على المشاركة فى التغيير الضرورى المرتقب فى حياتنا السياسية والاجتماعية فى هذه المرحلة القلقة من حياتنا التى نتطلع فيها إلى التغيير الجذرى الذى يتجاوز الأوضاع المتردية السائدة، هل هو رأى نابع من تحليل علمى وموضوعى؟! أم هو موقف - أكبر من أن يكون تعبيرا عن واقع موضوعى -موقف يدرك عوامل التغيير النشطة داخله، والتى تنذر أو تبشر بضرورته حسب رؤية هذا التغيير المتوقع، ولهذا يسعى الأستاذ هيكل بموقفه الغريب هذا من الحزب الشيوعى المصرى، الذى يكاد يعبر عن إرادة استبعاده من التغيير المتوقع؟!
شريك فى 15 مايو
إن الأستاذ هيكل مفكر عملى يحرص دائما على أن يشارك فى التغيير إذا لاحت نذره أو بشائره، مازلت أذكر مقاله بعد أسبوع من موت عبد الناصر بعنوان عبد الناصر ليس أسطورة الذى كان مدخلا للمشاركة فى التغيير الذى تم على تناقض مع المرحلة الناصرية، حيث أصبح بعد رحيل عبد الناصر مستشارا للرئيس السادات وشاركه فى إحداث التغييرات الشهيرة التى جرت فى 15 مايو وظل مواكبا للمرحلة الساداتية لفترة ليست بالقصيرة. هل إدراكه بالتغيير المحتوم فى الواقع المصرى، وهذا الموقف الحاد الحاسم من الحزب الشيوعى المصرى هو بعد من أبعاد التغيير الذى يتوقعه ويشارك فى صياغته؟.
هل موقفه الحاسم من الحدود القاصرة للحركة الشيوعية المصرية رغم فقدانها الكثير من الموضوعية، هى بعد من أبعاد موقف يشارك فى صياغة التغيير المتوقع؟ هل هو خلاصة موضوعية علمية لقراءة الواقع المصرى اليوم، أم هو موقف أيديولوجى مرتبط بالتغيير المستقبلى الذى يتطلع إليه ويشارك فى تحقيقه ويكمن وراءه هذا الاستبعاد الحاسم للحزب الشيوعى المصرى فى التغيير المرتقب؟ مجرد تساؤل موضوعى، لا يقلل من التقدير العميق لكاتبنا الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل متمنيا له دوام الصحة والعافية والإبداع الفكرى المتجدد.
على أنى أجد نفسى فى النهاية متسائلا عن سر هذا القطع الحاسم شبه المطلق فى حديث الأستاذ هيكل فى استبعاد الحركة الشيوعية المصرية من القدرة على المشاركة فى التغيير الضرورى المرتقب فى حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فى هذه المرحلة القلقة والدقيقة بل والمأزومة من حياة شعب مصر، وحياة شعوب الأمة العربية التى نتطلع فيها إلى تغيير وتجديد وتجاوز للأوضاع المتردية السائدة فى المنطقة العربية من هيمنة أمريكية وتصاعد وتوسع للعدوانية الصهيونية وتفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية والثقافية والسياسية عامة فى المنطقة.
ما سر هذا الاستبعاد القاطع فى حديث الأستاذ هيكل لإمكانية مشاركة هذه الحركة الشيوعية المصرية فى معركة بناء المستقبل المصرى والعربى فى السنوات المقبلة مهما اتفقنا أو اختلفنا على عوامل ضعفها.. أو اختلفنا معها أيديولوجيا..
لم يبق لى فى النهاية إلا التعبير عن تقديرى العميق لكاتبنا ومفكرنا الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل متمنيا له دوام الصحة والعافية والمشاركة الإبداعية النشطة فى حياتنا الفكرية.

*****

محمد يوسف الجندي في مناظرة مع مؤرخ ثورة يوليو

مرويات «هيكل» عن الشيوعيين مجرد تكرار لما كان يروجه عنهم إعلام القصر الملكي
* لم يحدث أن أنكر الشيوعيون المصريون دور الدين وهم لا يفرقون بين دين وآخر وغالبيتهم مسلمون وبينهم مسلمون ويهود
* الشيوعيون من اليهود المصريين كانوا من المعادين للصهيونية والرافضين للهجرة اليهودية والمدافعين عن دولة فلسطين
* «هنري كورييل» علي عكس ما يقول الأستاذ هيكل كان مصريا وليس إيطاليا وانقطعت علاقته بالشيوعيين المصريين منذ طردته مصر عام 1950
* ثروت عكاشة يقول في مذكراته إن هنري كورييل تعاون معه لخدمة قضايا مصر حين كان مستشارا ثقافيا في باريس
* لا صلة للشيوعيين بمظاهرات كفر الدوار ولم يحاولوا القيام بانقلاب ضد ثورة يوليو
* الشيوعيون أيدوا قرار تقسيم فلسطين عام 1947 لأنه كان الحل الوحيد المممكن في ظل اختلال التوازن في القوي بين العرب وفلسطين

في حديثه الأسبوعي الذي يذاع له مساء كل خميس من قناة الجزيرة اهتم الأستاذ محمد حسنين هيكل بالحديث عن الشيوعيين وقد اعتادت جريدة العربي لسان حال الحزب الناصري أن تنشر نصه صباح كل أحد ولأهمية أحاديث هيكل ولأهمية جريدة العربي لسان حال الحزب العربي الناصري الصديق والذي يمثل قسما هاما من اليسار والذي نلتقي معه في كثير من القضايا والذي نعتبره حليفا في المعركة التي نخوضها الآن ضد عدو أساسي هو الاستعمار الأمريكي وحليفته إسرائيل والقوي الصهيونية، حرصت علي الرد علي ما جاء في هذا الحديث من أقاويل خاصة أنها لم تخرج عن الاختلاقات التي مللنا من سماعها وترديدها في الصحافة وأجهزة الإعلام التي كانت تعبر عن قوي القصر الملكي وأجهزة البوليس السياسي والقلم المخصوص التي كان اعلامها يسيطر علي السوق الإعلامي قبل ثورة 23 يوليو 1952.
وقد أشار الأستاذ هيكل إلي عدد من الشيوعيين مثل إسماعيل صبري وفؤاد مرسي وأبو سيف يوسف ونبيل الهلالي ومحمد سيد أحمد. وهذه الأسماء كلها كان لها دور أساسي في تحديد توجه وممارسة الشيوعيين المصريين. وإلي جانب هؤلاء هناك العديد من الأسماء الأخري التي كان لها دور بارز ومشرف. وهي كلها لم تتنكر في يوم من الأيام في انتمائها إلي الشيوعية والفكر الشيوعي.
ولكن مما يؤسف له أن الأستاذ هيكل ألصق بالشيوعيين المصريين وبالحركة الشيوعية أوصافاً هي نفس الأوصاف التي كان يلصقها الإعلام الذي كان يصدر عن القصر الملكي وأوساط القلم المخصوص والبوليس السياسي الذين كانوا يتعاملون بشكل مباشر مع القوي الخارجية والداخلية التي كانت مهمتها اختلاق الأكاذيب ضد القوي الوطنية المصرية.
* شيوعيون ومتدينون
ألصق الأستاذ هيكل بالشيوعية والشيوعيين عددا من التهم لا تمت لهم بصلة. أول هذه التهم هي الموقف من الدين واستنتج هذا الاتهام من زعم أن الماركسية تقول بالتفسير المادي وحده التاريخ. وهو أمر لم يقل به ماركس أو الماركسيين، ولم يحدث أن أنكر الشيوعيون المصريون الدين ودوره، ولا نعلم من أين أتي الأستاذ هيكل بهذا الكلام ولم يذكر حدثا واحداً لأحد من الشيوعيين المصريين يردد هذا القول ولم يلجأ في ذلك إلا للدعاية المضادة. والموقف الواضح للشيوعيين منذ قيامهم حتي الآن أنهم لا يفرقون بين دين وآخر سواء كان الإسلام أو المسيحية أو اليهودية. فالدين لله والوطن للجميع وكان هذا من التراث الوطني الذي أرسته ثورة 1919 ولهذا فغالبية الشيوعيين ينتمون للإسلام، وبينهم مسيحيون ويهود، وإن كان عدد اليهود الآن يكاد ينقرض لاعتبارات الصراع العربي الإسرائيلي وتدخلات أجهزة الأمن. ولكننا نذكر في تاريخ الحركة الشيوعية أن الشيوعيين من اليهود المصريين كان لهم موقف واضح ضد الصهيونية وقد كونوا رابطة "الشيوعيين المناضلين ضد الصهيونية ونذكر في هذا المجال من الشيوعيين اليهود " شحاته هارون " المحامي وغيره، الذي رفض أن يدفن في الحاخامية اليهودية، ورفض أن يشهد جنازته السفير الإسرائيلي وألف قبل موته كتاب (يهودي في القاهره). الصادر عن "دار الثقافة الجديدة" الذي تصدي فيه للصهيونية وإسرائيل. ويمكن إيراد أمثلة أخري.
أما أن بعض اليهود المصريين قاموا بدور هام وبارز في نشأة الحركة الشيوعية في الأربعينيات مثل هنري كورييل وغيره فقد استخدمه قوي البوليس السياسي لتشويه الحركة الشيوعية. وقد ردد الأستاذ هيكل الأقوال التي كان يروجها الإعلام الذي كان يروجه الإعلام الملكي واعلام القلم المخصوص والبوليس السياسي. والمعروف أن هنري كورييل طردته السلطات الأمنية من مصر 1950 رغم جنسيته المصرية. ولم يكن إيطاليا أو يحمل جواز سفر إيطالي كما يزعم الأستاذ هيكل. ثم ذهب إلي فرنسا وأصبحت علاقته مع الشيوعيين المصريين مقطوعة بقرار من الحزب الشيوعي المصري الذي وحد عددا من المنظمات الشيوعية والذي أرسل رسالة تقدير إلي كورييل وغيره من رفاقه الذين خرجوا من مصر سواء بقرار الحزب أو بمعرفة سلطات الأمن. ولكن دعاهم إلي قطع علاقاتهم بالشيوعيين المصريين بسبب طول اغترابهم الذي أجبروا عليه.
وقد نفذ كورييل هذا القرار ووجه نشاطه لمساعدة المناضلين الجزائريين من أجل التحرر واعتقل في فرنسا وحكم عليه بالسجن عشر سنوات وكان في السجن مع بن بيللا ولكن لم يستكمل الحكم الذي أُلغي في عهد ديجول. واستمر يساعد جبهة التحرير الجزائرية بمساعدات كبيرة. وبعد انتصار ثورة الجزائر قام كورييل مع رفاقه بتأسيس منظمة سموها التضامن وكانت تساعد منظمات في مختلف أنحاء العالم منها منظمة جنوب أفريقيا التي كانت تناضل ضد الفصل العنصري وأصبح رئيسها نلسن مانديلا ومنظمات أخري في أفريقيا وأمريكا اللاتينية إلي جانب منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات وهي كلها منظمات تعتبرها الإدارة الأمريكية منظمات إرهابية، ويتفق هيكل في روايته مع هذا التوصيف. وقد اغتيل كورييل أمام منزله وأعلنت إحدي المنظمات التي سمت نفسها " دلتا " بهذا الاغتيال. ولم يسفر التحقيق حتي الآن عن شيء.
وعندما علم كورييل مع بعض رفاقه الذين انتقلوا إلي فرنسا بمحاولات العدوان الثلاثي علي مصر أرسلوا المعلومات إلي جمال عبد الناصر عن طريق الدكتور ثروت عكاشة الذي كان مستشارا ثقافيا في باريس. وقدم له كورييل وزملاؤه مساعدات كبيرة ذكرها الدكتور ثروت عكاشة في كتابه الذي ألفه وتحدث فيه عن تلك الفترة واسم الكتاب "مذكرات في السياسة والثقافة" صدرت طبعته الأولي في دار الهلال في يناير 1988. جاء في صفحة 315 من الكتاب :
وكنت قد تعرفت علي هنري كورييل مع مطلع عام 1958 وقدم لي عددا من الشيوعيين المصريين المقيمين بأوروبا. كانت فاتحته تعاون صادق في خدمة المصلحة الوطنية. وقد اتفقت معهم علي الاضطلاع بترجمة كتاب الهدنة المشتعلة إلي الفرنسية لقاء أجر رمزي لما اشتمل عليه من معلومات تثير القراء لما كان لإسرائيل من أعمال عدوانية، وقاموا بنشره وتوزيعه وإهدائه إلي بعض الشخصيات الفرنسية ذات التأثير مثل جان بول سارتر وبيير كوت وإمانويل داستيه وغيرهم. وأشهد أنه طوال هذه السنين كان كورييل مثالا للتعاون الأمين سواء من حيث المعلومات السياسية المقيدة التي زودني بها أو من حيث الاتصالات الجادة التي كان يحاول أن يخدم بها قضية تطبيع العلاقات بين مصر وفرنسا.
* الشيوعيون وحرب فلسطين
ويقول هيكل: "إن موقف الشيوعيين من حرب فلسطين موقف غريب جدا. هذا في نظرهم صراع طبقي عالمي ولكننا هنا إزاء صراع وطني هنا وطن اسمه فلسطين يضيع".
والرد علي ذلك أورده من كتاب لهيكل اسمه "العروش والجيوش".
وقبل أن أورد رد هيكل سأصحح كلامه عن موقف الشيوعيين من القضية الفلسطينية. فقد كان موقفهم باستمرار هو المطالبة بالدفاع عن وطن واحد في فلسطين يشمل العرب والمسيحيين واليهود. وكانوا يرفضون دائماً الدعوة لهجرة اليهود إلي فلسطين وعندما قامت الحرب وعرض الأمر علي هيئة الأمم المتحدة أيدوا قرار التقسيم الصادر عنها ليس باعتباره أحسن الحلول ولكنه كان القرار الوحيد الممكن في ظل العدوان الإسرائيلي.
وكان هذا القرار في إطار عدوان كان للجيش الإسرائيلي فيه القدرة علي الانتصار للأسباب التي ذكرها هيكل في كتابه «عروش وجيوش».
وفيه ذكر هيكل. أن البلاد العربية دخلت الحرب دون استعداد "إن الجيش المصري دخل فلسطين وهو لا يعرف شيئا عن جيش اليهود ولا عن قادتهم. ولا عن عدتهم العسكرية واسلحتهم ومدي قدرتهم علي القتال. كان عدد الجيش العربي بالمتطوعين 26 ألفا، بينما كان عدد الجيش اليهودي 120 ألف رجل وامرأة وكان بعض المسئولين في بعض الدول العربية يعملون إما بوحي الاستعمار الأجنبي وإما بتأثير مصالحهم الخاصة. وقف الشيوعيون المصريين ضد دخول الحرب لأنها كانت حرباً تحت امرة الإنجليز، كان الجنرال جلوب هو قائد الجيوش العربية. أرسلها رؤساء البلاد العربية دون استعداد وجري اتفاق بين ملك الأردن والوكالة اليهودية بالوقوف ضد قيام دولة فلسطين. وكان الهدف منها هو ضم الضفة الغربية لشرق الأردن وتكوين دولة الأردن. هذا كان حسب رواية الأستاذ هيكل.
هل كان الأستاذ هيكل يريد منا أن ندخل هذه الحرب لتنفيذ أهداف الوكالة اليهودية وحكام العرب مع وضع العراقيل أمام قيام دولة فلسطين. هل كان هذا ما يطلب من الشيوعيين أن يقوموا به. ومازال الفلسطينيون يناضلون حتي الآن من أجل إقامة دولتهم المستقلة وعودة اللاجئين.
لقد كنا نعاني من الاحتلال البريطاني وسيطرة هؤلاء الحكام العرب المتهاونة معه وهذا ما كنا نناضل من أجله ولم نلتفت لدعوة هؤلاء الحكام العرب الذين يزعمون أنهم يريدون تحرير فلسطين بينما كانوا يعملون في واقع الأمر للوقوف ضد قيام الدولة الفلسطينية لحساب مصالحهم الشخصية وللحفاظ علي السيطرة الإسرائيلية في ظل حماية الدول الاستعمارية.
ويتحدث الأستاذ هيكل عن الوطنية والأممية والعولمة. ويضع الوطنية كهدف معاكس للأممية. والشيوعيون لا يجدون أي تعارض بين الوطنية والأممية وهو ما يتأكد كل يوم الآن وتثبته الأيام. فمنذ الأربعينيات وقبلها ركز الشيوعيون نضالهم ضد الاستعمار البريطاني وتطوعوا مع الضباط الأحرار لمحاربة الإنجليز وأيدوا حكومة الوفد عندما أعلن النحاس باشا إلغاء معاهدة 1936 وذهب المتطوعون الشيوعيون إلي القنال ووقفوا ضد العدوان الثلاثي وعملوا بتعاون كامل مع الضباط الأحرار مثل كمال رفعت وغيره.
* كلام لا يقبله العقل
ولكن من أخطر ما يزعمه الأستاذ هيكل اختلاق أن الشيوعيون تصوروا أن يتقدموا ليحلوا محل النظام الذي سقط بمجيء النظام الجديد. وهذا الكلام لا يقبله العقل ولا يوجد من الواقع وتطورات الأحداث ما يسنده. مما يكذب ذلك أن عددا من الضباط الأحرار كانوا أعضاء في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني مثل خالد محيي الدين ويوسف صديق وكان للأخير كما هو معروف الدور الأبرز في احتلال مبني هيئة أركان حرب الجيش القديم والقبض علي القيادة القديمة، ليلة 23 يوليو 1952 وقام بذلك وسلم القيادة من نفسه لمجلس قيادة الثورة.
وأخطر ما يخترعه وما يقوله الأستاذ هيكل إنه كان للشيوعيين دور في اضرابات كفر الدوار بالتعاون مع عملاء القصر الملكي ويقول إن الشيوعيين بدأوا التعاون مع حركة يوليو بإظهار أنهم بإمكانهم الإضرار بها في مظاهرات كفر الدوار ـ وكل ذلك في روايات غير صحيحة ولم يقدم الأستاذ هيكل أي مصادر أو روايات تؤكدها. أو أن الشيوعيين كانوا يدبرون انقلابا اعتمادا علي ضباط الصف ورواياته عن اللواء فؤاد صادق لا أساس لها من الوقائع ما يسندها. وهي كلها اختلاقات ليس هناك ما يسمح بتصديقها.
ومن الوقائع التي لم يقدم أحد أي وقائع تكذبها أن أول تنظيم أصدر بيانا يؤيد حركة الضباط ويساندها هو أكبر تنظيم شيوعي وهو الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني.
* حديثو الأجمعية
يتهم الأستاذ هيكل الشيوعيين بأنهم كانوا يحاولون خلق أممية تابعة للاتحاد السوفييتي. ودراسة الوقائع تؤكد أن أكبر تنظيم شيوعي وهو الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني اختلف مع الأحزاب الشيوعية في العالم (الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي البريطاني وباقي الأحزاب الشيوعية لأنه كان يؤيد ثورة يوليو ويدافع عنها مقابل هجوم أغلب الأحزاب الشيوعية الخارجية باستثناء الحزب الشيوعي السوداني ولم تغير هذه الأحزاب موقفها إلا بدءا من التغييرات التي حدثت في مواقفها بعد رفض أمريكا تمويل السد العالي فلجأ عبد الناصر إلي الاتحاد السوفيتي والبلاد الاشتراكية معه اتصالاته بعد لقائه في مؤتمر باندونج بشو إن لاي وقبول الاتحاد السوفيتي تمويل السد العالي. وقد أدت هذه التغيرات إلي تحول في سياسة جمال عبد الناصر بتزايد تعاونه وصداقته مع الاتحاد السوفيتي والبلاد الاشتراكية.
أعتذر للإطالة لاضطراري إلي السرد بالوقائع علي روايات أنا متأكد من عدم صحتها وتثير البلبلة والضلال لدي الرأي العام. وأنا متأكد من عدم صحتها ولدي الأدلة علي ذلك.
وهي تمس حركة أغرقت بالأكاذيب والتشويهات سواء في مصر أو غيرها في العالم. وهي حركة كبيرة لها دور بارز في تاريخنا الوطني.
وأزعم أن علاقات التحالف بين هذه الحركة والحركة التي قام بها جمال عبد الناصر في مصر خلقت واقعا في مصر وفي بلاد العالم الثالث أثرت ومازالت تؤثر علي التطورات في العالم. وقد كان الأستاذ هيكل قريبا من عبد الناصر. وأعتقد أنه لهذا مازال قريبا من التيار الناصري الذي نعمل علي تدعيم تحالفنا معه في مواجهة قوي الردة التي تسيطر الآن وتهدد بلادنا بالانزلاق إلي طريق يهدد مصالحنا الوطنية ومصالح شعبنا.وأطالب الأستاذ هيكل أن يراجع ما كتبه عن الشيوعيين. وأن يراجع مرة أخري ما ذكره في هذا المقال. فهو كاتب قدير وله دور هام في الإعلام في مصر. مقالة الأستاذ هيكل بها نقاط كثيرة أخري تحتاج للرد عليها. ولعدم الإطالة أكتفي بهذا الرد علي أن أواصله في مناسبة أخري

*****

أستاذ هيكل: لسنا بحاجة لقائد ملهم أو لحكيم سليماني
بقلم : أحمد الحسنية

قبل الخوض في الحديث و إبداء وجهة النظر، أقول بأنني، مثل غيري كثير،
ممن يعجبون بإسلوب الأستاذ هيكل، في الكتابة و الحديث، و أيضا في سلاسة
التعبير و تسلسل الأفكار و إنسيابها. إلا أن ذلك لا يعني إنني ، بشخصي
البسيط، أوافق سيادته على ما يأتي به من تحليلات و حلول و أفكار و
تصورات. بل أستطيع أن أقول بأنني و إن أعجبت بالإسلوب إلا إنني أختلف مع
المضمون إختلافا بينا. فالجوهر هو الأهم و ليس الحديث المنمق و الكلمات
التي تنساب كعقد فريد. و مرد ذلك الإختلاف في الرأي عن الأستاذ هيكل ربما
يعود إلى إختلاف المدرسة الفكرية التي إنتمي إليها عن مدرسة سيادته.

أنا من مدرسة الحرية للجميع، و من مساندي مصر القائمة بذاتها و المحافظة
على شخصيتها، و من أشد أنصار الفرد العادي البسيط، الذي أؤمن بأنه
الوحيد الذي يمكن أن يقود مصر للحرية و الإزدهار و إنه الوحيد الذي
يستطيع أن يحرس الحرية عندما تأتي على يديه.

بينما الأستاذ هيكل كان و لازال من أنصار الناصرية، و الناصرية تعني إلغاء
الهوية الذاتية المصرية و تذويبها في هوية مستحدثة كانت من بنات أفكار
القوميين العرب السوريين و من أبرزهم ميشيل عفلق السوري، الأب الروحي
لحزب البعث بفروعة القطرية بسوريا و العراق سابقا، و السودان و غيرها من
البلدان المتحدثة بالعربية.

كما أن المدرسة الناصرية القومية التي يعد سيادته، أي الأستاذ الكبير
هيكل، من أعمدتها الكبرى، هي مدرسة ديكتاتورية تتبنى الفكر الشمولي و
الحكم السلطوي و أحادية الحقيقة، و الإستعداد للتضحية بالشعب في سبيل تلك
الحقيقة و إن كانت خاطئة. و إن مجد الحاكم الأوحد المصاب بعقدة السيطرة و
الزعامة، يعلو فوق مصلحة الشعب. و العجيب إن ذلك الحاكم السلطوي و
الطاغية الشامخ المتكبر هو من يطلق عليه الأستاذ هيكل إسم النجم القطبي.
الذي علينا أن نهتدي بهديه و أن يكون دائما رائدنا و ملهمنا يقودنا
فنتبعه، و نسترشد برأيه في الملمات و المآزق و نوائب الدهر التي دائما
ما تكون من صنعه أو صنع أمثاله من النجوم القطبية الهيكلية.

تعالوا لنقرأ ما قال سيادته، أي الأستاذ الكبير هيكل، في حديثة للأستاذ
كريشان على قناة الجزيرة، ذلك الحديث الذي ينعي فيه الأستاذ هيكل غياب
مثل هذا النجم القطبي الملهم، قال سيادته:

اننا مع الأسف الشديد نسير في طرق، وموجودين في صحراء ليس فيها قمر ولا
يوجد فيها نجم قطبي، لايوجد قمر يعبر عن فكرة مضيئة، تلهم، ولا يوجد نجم
قطبي، (أقصد) رجل في المنطقة، او زعيم في المنطقة يشار اليه ويتبع، أو
علي الاقل ينظر إليه في الملمات.

إنتهى

ليسمح لنا أستاذنا الكبير هيكل بالقول أن نظرته متأثرة تأثرا واضحا، كما
أرى، بنظرية توماس كارلايل في البطل و عبادة البطولة، و إعتبار أن تاريخ
العالم هو تاريخ أبطاله، و أن العالم يحتاج دائما لأبطال ليقودوه، أبطال
من نفس الطينة التي تخيلها فريدريش نيشته، فيما بعد، ليخلق منها بطله
الأسطوري الذي أسماه سوبرمان.

تلك النظريات التي تخلى عنها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بعد
الفجائع المروعة التي إرتكبها أشخاص تقمصوها، على شاكلة الفوهور و
الدوتشي و الإمبراطور المؤله باليابان، الذين جروا العالم إلى مجزرة
الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة خمسين مليون نسمة تقريبا، و
دمرت حياة ملايين أخرى، و غيرهم أخرين من أمثال الرفاق ماو و لينين و
ستالين، و أصحاب الجلالة من أمثال قيصر ألمانيا فيلهم و نابليون، الذي
آمن بنظرية البطولة حتى قبل أن يولد مطلقها، و الحكام الإقليميين من
أمثال عبد الناصر و القذافي و صدام.

العالم اليوم، و منذ بدأت العصور الحديثة، يتحرك بخطوات متسارعة أحيانا
و متباطئة أحيانا أخرى، لكنه يتحرك قدما، تجاه الفرد العادي، ليعلي من
شأنه على حساب البطل. ففي عالم السياسة نجد الديمقراطية التي هي حكم
الشعب، عمادها هو البرلمان الحديث الذي هو مجتمع ممثلي ذلك الشعب، ممثلي
الأفراد العاديين، مع الإعلام الحر و المنظمات المدنية غير الحكومية،
فإختفت بذلك الزعامات الملهمة و الأبطال الضرورة و الزعماء القطبيين،
الذين يسيرون فيتبعهم الأخرين، و لو قادوهم للمذبح.

لنتلفت حولنا، و لننظر لكل دول العالم، هل هناك قائد ضرورة أو زعيم ملهم
أو نجم قطبي في الإتحاد الأوروبي بدوله الخمسة و العشرين؟ و هل هناك مثل
هذا الزعيم في الديمقراطيات الراسخة كما في كندا أو الولايات المتحدة أو
أستراليا أو نيوزيلند أو اليابان أو الهند؟ هل سمعتم بمثل هذا النجم
القطبي في الدول الديمقراطية الحقيقية الحديثة بأمريكا اللاتينية أو
أفريقيا أو الشرق الأقصى؟ أو حتى في الصين الديكتاتورية و التي تسير برغم
دكتاتوريتها، قدما في طريق زعامة العالم إقتصاديا خلال أربعين عاما
تقريبا من الأن، تلك الديكتاتورية التي لا تسمح لرئيس بالتأبيد في الحكم
ربع قرن منذ مات زعيمها الملهم ماو؟

أستاذ هيكل، في التاريخ الحديث و المعاصر، لم يعرف العالم زعيم ملهم سوى
غاندي و من الممكن إضافة مانديلا ليكون بجانب إسم غاندي، و عدا هذين
الإسمين لا يوجد إلا طغاة كبار أو صغار، يحاولون أن يدعوا الزعامة و
يتقمصون دور الملهمين، فقادوا العالم أو دولهم، حسب حجمهم، للخراب بفضل
إلهامهم المزعوم و إهتداء شعوبهم بنجمهم المنحوس.

الفرد العادي اليوم و أبدا هو المهم، و هو مصدر كل السلطات و مصدر كل
الإهتمام، و رأي أغلبية الشعب هو الإلهام الحقيقي و النجم القطبي الأوحد
الذي يجب أن يتبع. اليوم، و في المستقبل، هو عصر الفرد العادي في
السياسية كما في باقي مجالات الحياة.

ففي عالم الفن، على سبيل المثال، إختفى الإحتفاء بالجمال الباهر و إختفى
مع ذلك الإحتفاء أيضا فكرة توحيد و ثبات مقاييس الجمال، فأصبح الجمال في
عالم الفن لا تحكمه معايير ثابته، بل أصبح الجمال كالموضة في عالم
الأزياء، كل فترة يجري تغيير معاييره ليستوعب مفهوم الجمال الجميع، لذا
نجد ملكات جمال من كل الأشكال و الألوان و الثقافات، فربما هذا العام من
الهند و العام القادم من البرازيل و الذي يليه ربما من الكاميرون أو
الفلبين أو السويد. ونشاهد نجوم سينمائيين عالميين و مقدمي برامج
تلفزيونية شهيرة، ترفيهية و جادة، على نفس المنوال أيضا، فالنجوم اليوم
من كل الألوان و الأشكال و الأطوال و الأحجام و الأعمار، فلم يعودوا نجوما إلا
بقدراتهم المكتسبة لا من صفاتهم الموروثة.

إنه الإحتفاء بالشخص العادي، الشخص الذي يعيش في الواقع و ليس في مخيلة
بعض الفلاسفة أو يحاول صنعه بعض المفكرين أو يحاول أن ترسمه فرشاة بعض
الرسامين، أو تصوره كاميرا بعض المخرجين، أو تتخيله أشعار بعض الشعراء.

اليوم حلت محل نظرية البطولة فكرة العادية، إن أمكن لنا أن نطلق هذا
التعبير على مفهوم الإحتفاء بالشخص العادي، تلك الفكرة سنجدها تزداد
ترسخا في وجدان الشعوب الديمقراطية، و كلما ترسخت الديمقراطية ترسخت
الفكرة أكثر، و إن كان لنا أيضا أن نعتبر العكس هو الصحيح، و إنه كلما
كان إتجاه الشعب نحو الإحتفاء بالفرد العادي، ترسخت الديمقراطية أكثر، و
ما يدعم رأيي هذا هو الملاحظات التي أوردها أندريه سيجفريد، الكاتب
الفرنسي في كتابه سيكولوجية بعض الشعوب، عندما تحدث عن نفور الإنجليز
بصفة عامة من الأشخاص اللامعين. فذكر كيف إنه عندما دعي لإلقاء محاضرة في
كلية أيتون سأل المشرفين على المحاضرة عن الكيفية التي يفضل، بضم الياء
و فتح الفاء، أن يبدو بها حين يتحدث للطلاب، فكانت الإجابة أو النصيحة: لا
تكن لامعا. و لقد أورد سيجفريد ما يعزز ذلك في عالم السياسة البريطانية
حين ذكر إنه لولا الحرب العالمية الثانية لربما لم يكن بإمكان شخصية لامعة
كتشرشل أن تصل أبدا لرئاسة الوزراء. و ما لم يذكره سيجفريد، هو إن تلك
الشخصية البريطانية اللامعة، و التي تعد بكل المقاييس أعظم شخصية
بريطانية في القرن العشرين، و أحد أهم شخصيات القرن العشرين على مستوى
العالم، لاقى هزيمة منكرة في أول إنتخابات بعد الحرب العالمية. ذلك لأن
البريطانيين كانوا كما كانوا أبدا يكرهون الشخصيات اللامعة و النجوم
القطبية و الزعماء الملهمين الذين حين ينظر، بضم الياء، لهم يجب أن
تشرئب الأعناق، لهذا كانت ديمقراطيتهم أقدم ديمقراطية في العصر الحديث.

هذا ما يجب أن يكون الحال أيضا في مصر، كفانا زعماء ملهمين قادونا
للخراب الإقتصادي و الهزائم العسكرية المروعة و الديكتاتوريات المطلقة.
مصر يا أستاذ هيكل، بل و كل منطقة الشرق الأوسط، لا تحتاج قاده حكماء
تصورهم صحفهم و وسائل إعلامهم المرئية و المسموعة كما لو كانوا في حكمة
نبي الله سليمان، عليه السلام، يأتي ليستمع لها الرؤساء و الملوك و ينهل من
نبعها السياسيين في كل مكان. تلك الحكمة التي عززت الفساد، و زادت
الفجوة بين الأغنياء و الفقراء بشكل غير مقبول، و زادت في عهدها الأمية و
إنتشرت أمراض لم تعرف من قبل.

مصر تحتاج الفرد العادي، المستيقظ، الذي يعرف حقوقه و واجباته، و يؤمن
بالحرية و إنها لا تجتزء أو تنتقص و يجب أن يتمتع بها الجميع على حد
سواء، و يتابع الأحداث بوعي، و يقرأ ما وراء كل خبر و حدث، فلا يسمح لأحد
أن يتلاعب به أو أن يحركه كقطعة شطرنج.

فلو توافر العدد الكافي من هؤلاء الأفراد العاديين في مصر، فإن بإستطاعة
مصر أن تعبر الصحراء التي قادها إليها القائد الملهم، و عمل بكل طاقته
على إبقائنا فيها الحكيم السليماني.

أحمد الحسنية

ممثل الهيئة التأسيسية للحزب الحضاري المصري

*****

هيكل يتحدث كما لم يتحدث من قبل!

كان هذا هو المانشيت الرئيسي للعدد الأخير من جريدة الكرامة الناصرية.
هيكل يتحدث كثيرا هذه الأيام، ويبدو أن الزملاء في الكرامة لم يلاحظوا أنه في كل مرة تقريبا يتحدث "كما لم يتحدث من قبل" ! والتفسير الوحيد عندي لذلك أن "الأستاذ" – كما يحب حواريوه أن يلقبوه – ينسى ما قاله في المرات السابقة!
منذ بضعة أسابيع خرجت علينا معظم – ان لم يكن كل – الصحف "المعارضة" و "المستقلة" بعناوين ضخمة تقول على لسان هيكل "التوريث يتم هذا العام، 2006".
والاسبوع الماضي فقط خرجت علينا نفس الصحف بعناوين ضخمة برضه تنسب لهيكل نفسه أن "التوريث لن يتم أبدا".
وفي كل مرة كانت الاشادة بشمول النظرة وعمق التحليل!

عماد عطية

*****
من الأستاذ إلهامي الميرغني

عمي العزيز الأستاذ صلاح العمروسي
تحية للتقييم الموضوعي ، ونعم للتعرف على هيكل فى اللحظة الراهنة .
ولكن هذا الرجل الذى أكل على كل الموائد شخص غير محترم
هو الذى صاغ أفكار الاستبداد الناصري.
وهو الذى صك للسادات تعبير مراكز القوي .
وهو الذى عرف عنه عمالته للامريكان منذ عهد بعيد.
الراجل قال تصريحين متناقضين كما أوضح الصديق العزيز عماد عطية ، والناس بتطبل وتزمر فى كل مرة رغم انه غير كلامه 180 درجة.
أي موضوعية في ذلك ياعم صلاح .
هذه الظاهرة تؤكد قانون جريشام لأن هيكل عملة رديئة ولكننا نعيش زمن الردائة فهو الأستاذ في عصر الضحالة.
ياعمي صلاح
احنا عايشين عصر صناعة النجوم اللى اتكلم عنها هيكل في خريف الغضب ، والاعلام المزيف بيلعب فى دماغ الناس ويزيف وعيهم.
علينا أن نحاول تصحيح الأوضاع المقلوبة والاشارة إلي الخطأ وهذا أضعف الايمان كما علمتنا دائماً.
مع خالص حبى وتقديري

إلهامي الميرغني

*****

تحية وتعظيم سلام

تحيه و تعظيم سلام لجيل الاساتذه الكبار من مناضلينا الكبار الذين دفعوا ثمنا غاليا فى سجون الحكومات المتعاقبه ومنذ ثورة يوليو وحتى الان مازالوا يدافعون بمبدئيه وحميه عن افكارهم وتاريخ الحركه اليساريه المجيد فى الوقت الذى تقاعس فيه من يتصدرون المشهد
السياسى من اليسار الان عفوا زملائى لقد لقنت ردود الاساتذه محمود امين العالم والاستاذ احمد القصير والاستاذ محمد الجندى ل مبرراتى نكسه يونيو درسا فى التاريخ وفى الفلسفه
وفى علم الاجتماع وفى السياسه عله يظل يتذكره هو والمؤمنين به الى حد الهطل وهم من خدموا تحت حذاء محمود اسماعيل اعلى سلطه فى مباحث امن الدوله ابان اوائل فترة حكم السادات وهم يتصدرون الان مشهد صحف المعا رضه الغير مبدئيه الارزؤيه ويبدو ان اليسار على قلة عدده يمثل رعبا للنظام وللمعادين له والاساتذه لم يلقنوا الاستاذ المبرراتى درسا فى كل هذه العلوم وفقط بل لقنوه درسا كبيرا فى الاخلاق والترفع ايضا تحيه الى مناضلينا العظماء الكبار
نحبكم كثيرا ونعتز بكم نتمنى لو استطعنا تحمل ما تحملتوه وادامكم الله لنا نبراسا فى مسيرتنا الطويله الشاقه من اجل الفقراء والكادحين من ابناء شعبنا العظيم
ماجده فتحى
المحاميه
مركز العداله

*****

قصة أبوزيد.. الهيكلالى!
عبدالرحمن فهمى

نعم إنها ليست قصة أبوزيد الهلالي سلامة تروى علي الربابة لسنوات طويلة.. فقط أريد ـ ولعلها آخر حلقة ـ أن أصحح بعض المعلومات المغلوطة التي خرجت من فم الأستاذ محمد حسنين هيكل أمام ميكروفون إحدي القنوات الفضائية.. نعم هناك ما يستحق التصحيح أىضاً مثل قوله: إن حريق القاهرة بدأ عشوائياً وانتهي بتدبير.. والحقيقة أنه ابتدأ بتدبير محكم ثم انتهي عشوائياً لتغطية بعض المجرمين الحقيقيين.. وهذه قصة أخري عندى مستنداتها.. وقد وعدت المسئولين عن قناة »الجزيرة« ببثها في موعد لاحق.. ولكن.. ولكن فقط.. فقط أريد هنا أن أدافع عن رجال سطروا تاريخ مصر وينتهز الأستاذ »الكبير« محمد حسنين هيكل فرصة وفاتهم وينسب لهم ما لم يفعلوه.
* وعلي فكرة الأستاذ »الكبير« هيكل معزور.. فقد ورث هذا »السلوك« من أستاذه المباشر الأستاذ محمد التابعي المشهور عنه بأنه متخصص فى كتابة مذكرات الموتى!!.. ما أن يموت رجل مشهور أو فنانة مشهورة حتي تجد مذكراتها فى السوق!! بقلم محمد التابعي!!.. ولعل أشهر هذه المذكرات الخاصة بأسمهان، وعلي رأي شقيقها فريد الأطرش كيف ومتي كتبت مذكراتها، وقد قتلت في حادث مدبر فجأة وهي في الثلاثينات من عمرها؟! ثم هى لا تعرف أن تكتب اسمها بالعربي!!.. ولكن ماذا تقول للأستاذ التابعي الذى سار علي دربه الأستاذ هيكل!
المهم.. ماذا قال الأستاذ »الكبير« هيكل أىضاً؟!
روي الأستاذ هيكل قصة اعتقال مصطفي وعلي أمين يوم 25 يوليو 1952 عقب قيام الثورة بـ48 ساعة مع ضباط القلم السياسي وأفراد الحاشية الملكية.. وما أن علم بذلك حتي مشى علي رجيله، من منزله بشارع شجرة الدر بالزمالك إلي منزل محمد التابعي في شارع »أمين زكي«.. والصحيح أن اسم الشارع »ابن زنكي«، وقد عشت في نفس العمارة سنوات طويلة من حياتى.. المهم..
قال هيكل إنه ذهب مع محمد التابعي إلي اللواء محمد نجيب ليشرحا له خطورة اعتقال الأخوين مصطفي وعلى، لأن كل رجال الصحافة سيكونون في وضع سيئ جداً.. وهذا خطر علي الثورة.. في هذه الأثناء وصل جمال عبدالناصر وزكريا محيى الدين المختص بشئون الأمن والاعتقالات، وأوضحوا للأستاذين هيكل والتابعي أنه قد تم اعتقال كل من تحوم حولهم الشبهات.. واعتقال الأخوين سببه أنهما علي اتصال بأفراد يريدون هدم الثورة في مهدها، فلابد فى هذه الظروف الدقيقة التي تجتازها البلاد الآن من تأمين الثورة، وأن هذا الاعتقال لن يدوم طويلاً.
وقال الأستاذ هيكل إن جمال عبدالناصر وزكريا محيى الدين أبلغا محمد نجيب أن هناك بلاغاً ضد مصطفي وعلي أمين من مخبر صحفى »هايل« لا يشق له غبار تحري الأمور، لذا لم يتم الاعتقال عشوائياً.
ثم قال الأستاذ هيكل وهو »ينفث« معتقداته إن الأستاذ أحمد أبوالفتح أحد أصحاب جريدة »المصري« هو صاحب البلاغ! والسبب أن هناك منافسة مستمرة بل عداء تقريباً بين »المصري« و»أخبار اليوم« باعتبار أن أصحابهما مصريون.
ثم استطرد »لا فض فوه«: علي العموم العلاقات بينهم كانت معقدة.. دخلوا في شركة معاً بعض الوقت ثم اختلفوا بعض الوقت.. وهذا ما سأشرحه فيما بعد حينما اتحدث عن الصحافة المصرية والعربية.
ثم يقول الأستاذ هيكل إنه نشأ نوع من المودة بينه وبين جمال عبدالناصر بحكم وجوده معظم الوقت في مقر القيادة.. وانتهزت الفرصة وطلبت من اللواء نجيب في حضور جمال عبدالناصر أن يكتب بخط يده بياناً »هدفه توضيح الصورة« ـ يقصد توضيح صورة مصطفي وعلي أمين ـ فكتب محمد نجيب بخط يده رسالة نشرناها فى »الأخبار« يحيى فيها القوات المسلحة والموظفين علي تأييدهم المطلق للثورة.
هذا هو ما قاله الأستاذ هيكل.. ولنا تعقيب!!
* من سوء حظ الأستاذ هيكل أننا مازلنا أحياء.. لم نمت بعد.. عشنا هذه الفترة في قلب الأحداث.. عشنا 24 ساعة صحافة في هذه الفترة بالذات ومعنا رجال الثورة قبل قيامها وأثنائها.
... وهذه هي الحقيقة التي لا تعرفها...
اسم المخبر الصحفي »الهايل« الذى لا يشق له غبار ـ كما قلت والذى أشار إليه محمد نجيب ـ هو »المرحوم عبدالرحمن زايد« أقدم وأحسن مندوب صحفي شهدته وزارة الداخلية.. كان يرصد الأحداث من مصادرها لعلاقاته الوطيدة والطويلة مع كل من في الوزارة.. حتي عامل المصعد!
ومن بين ما كتبه يوم 24 يوليو ثلاثة أسطر لا أكثر.. عبارة عن مكالمة تليفونية بين مصطفي أمين وسكرتير عام السفارة البريطانية اسمه ـ إذا لم تخنى الذاكرة ـ »مستر إيفانز«.. وأن الوزارة سجلت هذه المكالمة.. لم يزد حرفاً عن هذه الأسطر الثلاثة.
فإذا بالجميع يفاجأون باسم مصطفى وعلي أمين ضمن المعتقلين في صباح اليوم التالي!!.. حسين أبوالفتح شقيق أحمد وكان نقيباً للصحفيين في ذلك الوقت اعتبر أن هذا الخبر خطير للغاية بالنسبة للصحافة والنقابة عموماً.. فجمع مجلس نقابة الصحفيين فوراً.. وقرروا إرسال وفد إلي مقر قيادة الثورة.
وفي اتصال تليفوني مع أحمد أبوالفتح وكان مازال بالإسكندرية، منتظراً علي ماهر لمحاولة خلع الملك بالحسني ـ وهذه قصة أخري ـ في هذا الاتصال طلب أحمد أبوالفتح من شقيقه حسين أن يترك هذا الموضوع له ولا داعي لوفد من النقابة.
كان أحمد أبوالفتح حريصاً علي »شكل« الثورة فهو الذي أطلق رصاصة البداية في القصة المشهورة.. وهو أيضاً في منتهي الحرص علي »المحافظة علي استمرار قبضة الثورة علي الأمور«.. فلا يذهب وفد من نقابة الصحفيين للإفراج عن هذا أو ذاك فيوافق محمد نجيب فتهتز صورة الثورة أمام الملك ورجاله.. بعد أن كانت الثورة خلال هذين اليومين دول بالذات »24 و25 يوليو« تحاصر الملك وتطلق صواريخها المعنوية المضادة لكي تحطم أعصابه، فيستسلم لعلى ماهر حينما يذهب إليه طالباً تنازله عن العرش لابنه الوليد.. رفض محمد نجيب رتبة أعلي.. أصر محمد نجيب علي اسم علي ماهر رئيساً للوزراء ورفض كل الاسماء التي طرحتها السراى.. ثم أصر محمد نجيب علي معرفة اسماء الوزراء واحداً واحداً.. وكان الملك يتراجع ويستجيب.. هذه الصورة وهذا التكتيك الذى شارك فيه أحمد أبوالفتح وإبراهيم طلعت »الليبرالى الرائع عضو الهيئة الوفدية« وغيرهما من مستشاري الثورة ـ وهذه قصة أخري أيضاً ـ كان أحمد أبوالفتح لا يريد هز هذه الصورة الرائعة، وهذا التكتيك المحكم بإرسال وفد من نقابة الصحفيين لإجبار محمد نجيب للإفراج عن مصطفي وعلي أمين.
... في نفس الوقت...
... في نفس الوقت كانت مكالمة تليفونية طويلة من أحمد أبوالفتح لجمال عبدالناصر وثروت عكاشة ويوسف صديق بضرورة الإفراج فوراً عن الأخوين في هدوء وسكون وبدون وساطة أحد أو إجبار من أحد.. فنحن في موقف لا نسمح لأحد بالتدخل سواء بالاستجداء أو بالاجبار.. وقد كان.. خرج مصطفي وعلي أمين في جنح الليل بعد ساعات وكانا في مكتبيهما في »أخبار اليوم«.. خرجا فوراً في نفس الليلة!!
ـ هذه هي القصة الحقيقية بكل تفاصيلها.
ـ بقى أن أقول:
* لا أدري إذا كان الأستاذان هيكل والتابعي ذهبا إلي مقر قيادة الثورة أم لا.. ولكن من المؤكد أن وساطتهما لم تلق أية استجابة.. باعتراف هيكل نفسه في حديثه التليفزيونى والذى أفرج عنهما أحمد أبوالفتح.. فكيف يكون هو صاحب البلاغ وهو الذى يطلب الإفراج عنهما؟!
* ثم أنني كتبت اسم كاتب الخبر »عبدالرحمن زايد« والغريب أن صديقى عبدالرحمن زايد انهي حياته الصحفية في »الأهرام« تحت رئاسة الأستاذ هيكل.. ولكن ماذا تقول.. الأستاذ هيكل مصر علي تشويه سمعة آل أبوالفتح!
* ثم تكلم الأستاذ هيكل عن العلاقة »المعقدة« بين آل أبوالفتح والأخوين مصطفي وعلي.. ولمعلومات الأستاذ هيكل أن ابنة مصطفي أمين هي زوجة حسين أبوالفتح »الصغير«.. وأن ابنتى مصطفي أمين قبل هذا الزواج بناء علي العلاقة »المتينة« بين الأسرتين عملتا في الشركة التي يديرها آل أبوالفتح!!.. وفى سرادق علي أمين قبل الزواج أىضاً.. لاحظ فؤاد سراج الدين وأحمد أبوالفتح أن مصطفي أمين يقف وحده يتلقى العزاء علي باب السرادق فذهبا معاً ليقفا معه يتلقيان العزاء!! ـ رغم كل ما قاله مصطفي أمين علي سراج الدين زمان!!.. هذه هي أخلاق الوفد المصرى.
* بقيت القنبلة الأخيرة..
* هناك من يؤكد وعنده المستندات أن الأستاذ هيكل كان له ضلع في اعتقال مصطفي أمين فى الستينيات والقبض عليه متلبساً خلال اجتماعه بأحد موظفي السفارة الأمريكية.. وهناك دليلان:
* الدليل الأول أن الأستاذ هيكل اتصل بعلي أمين قبل اعتقال أخيه وأرسله فى مهمة صحفية إلي لندن، وبعد سفره بساعات تم اعتقال توأمه مصطفى.
* والدليل الثاني الدامغ هو كتاب ألفه شخص اسمه »ويلبير كرين إيفلاند« المستشار السابق للمخابرات الأمريكية الـ»سى.آى.إيه« وعضو سابق للتخطيط السياسي للبيت الأبيض والبنتاجون.. الكتاب اسمه »روبرز أوف ساند« يعني بالعربي »أحبال من الرمال«، وتحت الاسم بالخط الرفيع عبارة تقول »سقوط أمريكاتى الشرق الأوسط« ـ أقرأ يا أستاذ هيكيل صفحة 320 السطر الـ17 إلي آخر صفحة ماذا قال المؤلف عندك بالاسم.. والصورة الزنكوغرافية لا تكذب.. ولا أريد أن أزيد.. وإن عدتم عدنا.

*****

التاريخ البلاستيك للأستاذ هيكل
أحمد عز العرب

نستميح القارئ عذرا في استعارة هذا العنوان من كتاب الكاتب الراحل محمد جلال كشك الصادر سنة 1988 تحت عنوان »ثورة يوليو الأمريكية« والذي أفرد فيه فصلا كاملا من ص35 إلي ص75 عنوانه »التاريخ البلاستيك وهيكل« رصد فيه الوقائع العديدة من التناقض في المعلومات التاريخية في كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل المختلفة بين ما يكتبه في أحد كتبه وما يعيد كتابته في كتاب آخر بعد بضع سنوات عن نفس الواقعة أو بين ما يكتبه في النسخة العربية وما يكتبه في النسخة الانجليزية عن نفس الواقعة في تناقض تام مع الحقيقة ومع السرد لنفس الواقعة في كل حالة.
وقد رصد جلال كشك عشرات الحالات الموثقة من كتب الاستاذ هيكل وحدد في كل حالة المرجع لمن يريد المراجعة. وتفرض علينا المساحة المحدودة الاكتفاء بمثل واحد لهذا التناقض. ففي كتاب هيكل عن حرب السويس في النسخة العربية يذكر هيكل اللقاء بين المرحوم الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الراحل روزفلت والذي قال فيه الملك عبدالعزيز عن منح اليهود وطنا في فلسطين أن العرب يرفضون العيش مع اليهود في فلسطين لأن العرب لم يؤذوا اليهود وبالتالي فتعويض اليهود عما فعله هتلر بهم يكون بعودتهم لبلادهم التي هجروها خوفا من النازي. وفي النسخة الانجليزية من نفس الكتاب يقول هيكل بالحرف الواحد: إن العرب يرفضون العيش مع اليهود في فلسطين أو أي مكان آخر في العالم. وبذلك يكون موقف العرب من اليهود عنصريا ومعاديا للسامية دون تفسير مقبول. وليس في الخلاف بين النسختين خطأ في الترجمة فهيكل يعترف في مقدمة النسخة الانجليزية انه ترجم الكتاب بنفسه لعدم حدوث لبس!!
نقول كل هذا بعد سماع حلقة الأستاذ هيكل في قناة الجزيرة يوم 17 نوفمبر الماضي والتي عرض فيها فترة وزارة الوفد الأخيرة من يناير سنة 1950 حتي يناير سنة 1952 ثم الستة شهور الأخيرة من حكم فاروق حتي سقوطه بالانقلاب العسكري في 23 يوليو سنة 1952. وقد تجني الأستاذ هيكل علي التاريخ وعلي الوفد بصورة مذهلة وعرض بعض المعلومات المنتقاة ليصل بالقارئ إلي نتيجة مغايرة للحقيقة وتضيع معها معالم تاريخ الكفاح الشعبي المصري الذي طمسه الانقلاب العسكري وصور تاريخ مصر كله قبل الانقلاب في صورة جاهلية كاملة انقشعت بوقوع الانقلاب. ومازالت أجيال ما بعد الإنقلاب تجني ثمار جرائم هذا التزوير العمدي للتاريخ في صورة ضياع للهوية وضياع الديمقراطية والإنسحاق الكامل أمام الاستعمار الأمريكي.
باختصار شديد يقول هيكل إن حزب الوفد عندما عاد للحكم في انتخابات حرة اكتسحها سنة 1949 كان ذلك بصفقة غير مكتوبة مع الملك فاروق سماها هيكل حلف الأعداء وأن الوفد عندها كان قد تحللت عزيمته التاريخية في الكفاح نتيجة السن والرفاهية التي حلت علي الزعيم الخالد مصطفي النحاس وأصبح الحزب وحكومته يسيطر عليهما ثنائي من الزعيم الراحل فؤاد سراج الدين والمرحومة السيدة زينب الوكيل حرم الزعيم الخالد مصطفي النحاس. وأن الوفد عندما أساء الحكم لجأ الي إلغاء معاهدة سنة 1936 مع بريطانيا في 8 أكتوبر سنة 1951 لتحويل الأنظار عن فشل وفساد حكمه وأن الملك وقع مراسيم إلغاء المعاهدة لإحراج حكومة الوفد وإظهار أنها لا تملك برنامجا لمواجهة الاحتلال وأن الملك استعان بحافظ عفيفي باشا كرئيس للديوان الملكي وعبدالفتاح عمرو باشا كمستشار سياسي لما يملكان من مواهب تنقذ الموقف وأن حريق القاهرة في 26 يناير سنة 1952 تم في الوقت الذي كان فيه سراج الدين باشا وزير الداخلية مشغولا بتسجيل عمارة اشتراها في الشهر العقاري وكان النحاس باشا مشغولا بتقليم أظافر يديه وقدميه بمعرفة اخصائي »بادكير ومانيكير« ولا يعلم هو ووزير داخليته ما كان يشتعل في العاصمة من حرائق وأن الحريق كان سببه المذبحة التي قام بها الانجليز في اليوم السابق لقوات بوليس الاسماعيلية الذين أمرهم وزير الداخلية من مكتبه بالقاهرة بمقاومة الدبابات الانجليزية ببنادقهم البدائية بدل الذهاب للإسماعيلية وقيادة قوات البوليس بنفسه. وإمعانا في تشويه صورة الزعيم الخالد زعم هيكل أن الطلب الوحيد الذي طلبه الزعيم الخالد من الملك يوم تشكيل الوزارة هو السماح له بتقبيل يد الملك. وينهي هيكل عرض الفترة بأن الملك أقال حكومة الوفد يوم 27 يناير سنة 1952 عقب حريق القاهرة وشكل علي ماهر الوزارة لمدة شهر ثم طرده الملك وكلف نجيب الهلالي بتشكيل وزارة أعلنت عند قدومها أن هدفها سيكون التطهير قبل التحرير أي القضاء علي الفساد قبل مواجهة الانجليز وأثني هيكل علي عبقرية الهلالي في ذلك وأخذ يستعرض علاقته الحميمة به وبحاشيته.
كان هذا هو تاريخ الفترة كما عرضه هيكل مشوها ومناقضا لكل الحقائق الموجودة في مراجع تاريخ الفترة العربية والأجنبية. والحقيقة يا أستاذ هيكل ـ سامحك الله ـ كما تعرفها جيدا وكما تصر علي تشويهها للأجيال المنكوبة بحكم الدكتاتورية التي ساهمت أنت بشدة في إقامة صرحه الظالم أن حكومة الوفد جاءت للحكم في يناير سنة 1950 عقب انتخابات حرة اكتسحها الوفد بعد ان عجزت حكومات الأقلية عن فرض معاهدات تربطنا بالاستعمارالبريطاني مثل مشروع معاهدة صدقي بيغن سنة 1947 التي أسقطتها المقاومة الشعبية الضارية وقدمت لها مئات الشهداء مثل مذبحة كوبري عباس سنة 1946 ومذبحة 21 فبراير سنة 1947 في ميدان الاسماعيلية ـ التحرير حاليا ـ واضطر الملك والانجليز إضطراراً الي السماح بانتخابات حرة لعل حكومة تمثل الشعب تستطيع الوصول لتسوية مع الانجليز. ومنذ إقالة حكومة 1944 للوفد وإنشاء جريدة أخبار اليوم التي كان الاستاذ هيكل يعمل محررا لدي مالكيها والتي أنشئت من أموال مجهولة المصدر كما يعترف هيكل نفسه في كتابه »بين الصحافة والسياسة« كانت رسالة الجريدة منذ إنشائها وحتي الانقلاب العسكري سنة 1952 هي تشويه الوفد وتشويه صورة الحكم البرلماني في نظر الشعب والترويج لأكذوبة »الدكتاتور العادل« الذي تحتاجه مصر طبقا لما تروجه أخبار اليوم وما يشحذ له كتابها ومنهم الاستاذ هيكل أقلامهم.
أما قصة تقبيل الزعيم الخالد ليد الملك يوم تشكيل وزارة الوفد في يناير فقد أخطأت يا أستاذ هيكل وأحبط الله عملك وعمل من يرددها معك فوالله الذي لا يحلف بأعظم منه فإن هذه الواقعة المغلوطة لم تحدث أبدا بل رددتها جريدة أخبار اليوم علي صدر صفحتها لتشويه صورة الزعيم الخالد. وبطبيعة الحال لم يستطع الزعيم الخالد إصدار بيان علني بتكذيبها حتي لا يصطدم مع الملك من أول يوم فلجأ الي تكذيبها بصورة غاية في الذكاء إذ نشرت جريدتا المصري وصوت الأمة الوفديتان صورة كبيرة لأول لقاء مع الملك يوم تشكيل الوزارة وقف فيها الزعيم الخالد شامخا منتصب القامة مبتسما والملك أمامه شامخ منتصب وقد تشابكت أيديهم الأربعة في مصافحة لم ينحن الزعيم مجرد انحناءة خلالها. ونسخ هذه الصحف موجودة بدار الكتاب.
سارت حكومة الوفد في المفاوضات مع الانجليز طوال سنة 1950 وحتي خريف سنة 1951 ولما وصلت المفاوضات الي طريق مسدود ألغت حكومة الوفد المعاهدة ولم يجرؤ الملك علي الوقوف في وجه المد الشعبي العارم وقتها فاضطر لتوقيع مراسيم الإلغاء وبدأ الكفاح المسلح ضد الاحتلال بمظاهرة سلمية من مليون شخص سار الزعيم الخالد رئيس الحكومة ووزراؤه في مقدمتها من مقر مجلس الوزراء حتي ميدان التحرير ثم بدأت عمليات المقاومة المسلحة التي كان يمولها سرا بالمال والسلاح وزير الداخلية فؤاد سراج الدين الذي تنعي عليه أنه لم يسافر إلي الاسماعيلية لقيادة جنوده ضد الانجليز فإن كان القائد الأعلي للبوليس مفروضاً فيه أن يقود البوليس في جبهة المواجهة فلماذا يا استاذ هيكل لم تنصح بطلك وولي نعمتك الذي دفع جيشه الي المذبحة فوق رمال سيناء سنة 1967 أن يترك عرشه في منشية البكري بالقاهرة ويتوجه الي سيناء لقيادة ضحاياه؟ ألم يكن وهو رجل عسكري أساسا أقدر من فؤاد سراج الدين المدني علي قيادة جنده؟
أقيلت حكومة الوفد عقب حريق القاهرة الذي تآمر الملك والانجليز علي إشعاله. وجاء علي ماهر لمدة شهر لتهدئة الشارع الثائر نجح خلاله في القبض علي الفدائيين العاملين بمنطقة القناة وجمع أسلحتهم ثم أمر بالاستقالة بعد أداء مهمته.. وجاءت حكومة نجيب الهلالي الذي تشيد بعبقريته في رفع شعار التطهير قبل التحرير، جاءت ألعوبة في يد الملك يقضي بها علي الحركة الوطنية بهذه المتاهات الزائفة.
وأستعير من كتاب »فاروق ملكا« لأحمد بهاء الدين هذه الجملة في وصف مسرحية التطهير التي أعلنها الهلالي. قال بهاء رحمه الله: وكان التطهير علي يد الهلالي أضحوكة كبري فقد كان الملك هو الفساد الأكبر الذي يتضاءل بجانبه كل فساد وكان الهلالي ألعوبة في يد الملك«.
باقي التاريخ معروف فقد سقط الملك وجاء العادل المستبد الذي طالما روج له هيكل في جريدة أخبار اليوم وغيرها من الجرائد التي عمل بها ونجح المستبد العادل في سحق الديمقراطية وسحق الإنسان المصري من الداخل وهزيمة مصر والعرب الساحقة أمام إسرائيل سنة 1967 التي مازلنا ندفع ثمنها الي أن يشاء الله ويستيقظ الشعب.
إننا لا ننكر علي الأستاذ هيكل قلمه القدير وقدرته علي تجميع الوثائق واستنباط أجزاء الحقائق مع الأكاذيب حتي يكون »القص واللزق« الناتج هو ما يريد هيكل ترديده.
وختاما يا أستاذ هيكل نذكرك بأسطورة الملك الفارسي الذي كان أعرج وأعور وطلب من أشهر رساميه أن يرسم صورته وأنذره أنه لو أظهر فيها عيوبه الخلقية سيقتله ولو غير الحقيقة فسيقتله أيضا فرسمه الفنان الذكي في صورة جانبية علي حصانه من ناحية عينه السليمة وطبعا لم يظهر بها أن رجله العرجاء أقصر من الأخري وبذلك فلم يغير الفنان الحقيقة كما أمره الملك ولم يقل الحقيقة في نفس الوقت حتي ينجو بجلده.

*****

التاريخ البلاستيك للأستاذ هيكل (2)
أحمد عزالعرب

تحت نفس العنوان نشرنا فى الوفد يوم 17/2/2006 رداً على ما ذكره الأستاذ هيكل فى حلقته بقناة الجزيرة يوم 17 نوفمبر سنة 2005 التى تهجم فيها على تاريخ الوفد وسمعة العمالقة من زعمائه مصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين ونسب لهما من الوقائع المغلوطة ما حاول به تبرير موقفه بجانب ضباط الانقلاب العسكرى فى يوليو سنة 1952 بل موقفه من حكومة نجيب الهلالى التى كانت ألعوبة فى يد الملك السابق فاروق. وذكرنا أننا استعرنا عنوان المقال من كتاب الكاتب الراحل جلال كشك »ثورة يوليو الأمريكية« الذى أفرد فيه فصلاً رصد فيه الوقائع العديدة من التناقض فى المعلومات التاريخية فى كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل المختلفة بين ما يكتبه فى أحد كتبه وما يعيد كتابته فى كتاب آخر عن نفس الواقعة بعد بضع سنوات أو بين النسخة العربية والنسخة الإنجليزية من أحد كتبه عن نفس الواقعة.
ونضطر اليوم آسفين إلى إعادة تصحيح تاريخ مصر وتاريخ الوفد الذى تجنى عليه هيكل فى حلقته بقناة الجزيرة يوم 8/6/2006 التى خصصها لتحريف التاريخ والتطاول على كل زعامات الوفد التاريخية بدءاً من الزعيم الخالد سعد زغلول ثم الزعيمين العملاقين مصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين مكتفين ببعض الحقائق فى حدود المساحة المتاحة.
يقول هيكل عن سعد زغلول ان رغبته فى الانفراد بالزعامة وطغيانها دفعته الى التجنى على أقطاب مصر أمثال لطفى السيد زعيم الليبرالية المصرية وعدلى يكن وعبدالخالق ثروت واتهامهم بالخيانة وممالأة الاستعمار البريطانى. ومرة ثانية نقول له سامحك الله يا أستاذ هيكل فقد خلطت بين صلابة الزعامة التى كانت حجر الزاوية فى شخصية سعد زغلول وبين ما تسميه طغيانها فلم يكن سعد يعرف أى قدر من المساومة على حقوق الأمة مهما كانت النتائج بينما كان الرجال المخالفون له فى الرأى الذين ذكرهم هيكل من المؤمنين بالمهادنة مع الاحتلال البريطانى والاكتفاء باستقلال رمزى لا يختلف كثيراً عن الحكم الذاتى فقد كانوا من طبقة كبار ملاك الأرض الزراعية المرتبطة بالقصر الملكى الذين قال عنهم المندوب السامى البريطانى يوماً إنهم أصحاب المصالح الحقيقية فى مصر. وحتى لا نجارى الأستاذ هيكل فى اغتياب رجال انتقلوا الى رحاب الله وحاولوا خدمة وطنهم فى حدود ما اعتقدوا فى صوابه نكتفى بأن نذكرّ هيكل بأن لطفى السيد الذى كان يوماً أبا الليبرالية المصرية هو نفسه الرجل الذى نعى على الشعب اختياره الكاسح للوفد ولسعد زغلول فى أول انتخابات حرة فى تاريخ مصر سنة 1924 التى تمت بعد صدور دستور سنة 1923 وعبر لطفى السيد وقتها عن غضبه على الدستور وعلى المصريين لسوء اختيارهم »قائلاً قولته الشهيرة إن دستور سنة 1923 ثوب فضفاض أكبر من مقاس الأمة المصرية«.
ينتقل هيكل بعد ذلك الى إعادة تجريح الزعيمين الخالدين مصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين بترديد اسطوانته المشروخة عن قلب الأوضاع التاريخية بالنسبة لحادث 4 فبراير سنة 1942 موحياً أن الوفد جاء الحكم على أسنة الرماح البريطانية والحقيقة التاريخية التى تخرق عين من يتحداها كانت أن مصطفى النحاس قبل الوزارة بإلحاح شديد من فاروق ولانقاذ عرشه من السقوط. ومرة أخرى يكرر هيكل أنه خلال حريق القاهرة يوم 26 يناير سنة 1952 كان مصطفى النحاس يقلم أظافر يديه وقدميه ولا يدرى بما يدور فى العاصمة وكان فؤاد سراج الدين وزير داخلية مشغولاً بتسجيل عمارة اشتراها فى الشهر العقارى. ويثبت هيكل بالإصرار على ترديد هذه الأكاذيب أنه من أنجب تلامذة عبقرى الدعاية التاريخى الدكتور جوبلز وزير دعاية هتلر الذى كان يدرب تلاميذه على الدعاية قائلاً: اكذبوا وأمعنوا فى الكذب واستمروا فى ترديده حتى يظنه الناس بل وتظنوه أنتم صدقاً«.
وأخيراً تبلغ الجرأة على التاريخ الزعم بأن ضباط الانقلاب فى يوليو سنة 1952 كانوا منقسمين بشأن عودة البرلمان وعودة الديمقراطية وأن جمال عبدالناصر كان زعيم التيار الديمقراطى الذى يريد عودة البرلمان الوفدى للحكم تطبيقاً للشعار الذى أعلنه قادة الانقلاب عند وقوعه وهو العمل فى ظل الدستور وأنه لو كان النحاس فى مصر يوم وقوع الانقلاب ولم يكن مسافراً خارج مصر لتغير التاريخ.
ونرد على الأستاذ هيكل وتاريخه الانتقائى الذى سبق به ترزية القوانين فى عهدنا الحالى السعيد الذى مهد له الأستاذ هيكل بتفانيه فى إقامة صرح الدكتاتورية العسكرية منذ وقوع الانقلاب سنة 1952 حتى استغنى السادات عن خدماته سنة ،1974 نرد على هيكل قائلين إن الانقلاب العسكرى سنة 1952 سمح الاستعمار الغربى بنجاحه عندما كانت مصر على أبواب ثورة شعبية اجتماعية وسياسية كاسحة بعد أن ألغت حكومة الوفد المعاهدة مع بريطانيا سنة 1951 وبدأ الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطانى وأن حريق القاهرة فى يناير سنة 1952 الذى تآمر الملك والإنجليز على إشعاله تم قبل ثلاثة أيام من اقرار البرلمان الوفدى لمشروع قانون إباحة حمل السلاح الذى قدمه له وزير الداخلية فؤاد سراج الدين. وأن الإنجليز ومن ورائهم أمريكا سمحوا بنجاح الانقلاب بعد أن تهالك الحكم الملكى تماماً وأنه لو تدخل المائة ألف جندى بريطانى الموجودون يومئذ بمصر ضد الانقلاب بحجة حماية الملك الشرعى لتغير تاريخ مصر قبل غروب شمس 23 يوليو سنة 1952. وليس معنى ذلك أن ضباط الانقلاب كانوا عملاء للغرب بل ضباطاً وطنيين يريدون خدمة بلدهم بالطريقة التى يعرفونها وهى الحكم العسكرى الدكتاتورى. وقد فضل الإنجليز تركهم ينجحون فى انقلابهم قبل أن تستولى الثورة الشعبية على مصر فالتعامل مع الدكتاتورية أسهل كثيراً من التعامل مع ثورة وطنية. وحتى لا يتهمنا أحد بالتجنى على ضباط الانقلاب نسوق شهادة أحدهم من قادة الصف الثانى للضباط الأحرار وهو السيد محمد أحمد البلتاجى الذى أصبح فيما بعد محافظاً للجيزة وهى الشهادة التى أوردها الشاعر المعروف فاروق جويدة فى كتابه »من يكتب تاريخ ثورة يوليو« ص250 وما بعدها يقول البلتاجى: كنت فى غرفة السويتش الساعة 4 صباحاً بعد استيلائنا على القيادة وكنت فى غاية التوتر خوفاً مما قد يفعله السبعون ألف جندى بريطانى لو تحركوا ضد الثورة. وحضر جمال عبد الناصر لى فى غرفة السويتش وطمأننى أن الإنجليز موافقون على حركة الجيش!!! ولا تعليق لنا.
أخيراً يا أستاذ هيكل فأنت سيد العارفين أن جمال عبدالناصر وزملاءه لم يدر فى خلدهم أبداً الالتزام بالشرعية الدستورية التى تشدقوا بها فى برنامجهم الانقلابى والدليل البسيط على ذلك أنه بعد أقل من أسبوع من الانقلاب واجهت ضباطه مشكلة أن الدستور الذى تعهدوا باحترامه وهو دستور سنة 1923 كان ينص على دعوة البرلمان للانعقاد بمجرد وفاة الملك لإعلان ولى العهد ملكاً أو تعيين مجلس وصاية لو كان ولى العهد قاصراً وأنه لو كان مجلس النواب منحلاً كما كان الحال عند وقوع الانقلاب يدعى المجلس المنحل للقيام بهذه المهمة ثم ينصرف. ولما كان عبدالناصر ورفاقه رافضين تماماً للحكم المدنى الدستورى ولعودة برلمان الوفد المنحل للانعقاد للقيام حتى بهذه المهمة المحددة فقد طلبوا من الآباء الروحيين لترزية القوانين ايجاد مخرج لهم من هذا المأزق فقام السنهورى رئىس مجلس الدولة رحمه الله وغفر له بدعوة الجمعية العمومية لمستشارى مجلس الدولة وأوجد لهم المخرج قائلاً إن الدستور نص على حالة خلو العرش بوفاة الملك ولكنه جاء خلواً من النص على خلو العرش بتنازل الملك كما فعل فاروق وبذلك فان ضباط الانقلاب يكونون فى حل من عدم دعوة مجلس النواب الوفدى للانعقاد. ولم يخرج على هذا الإجماح الظالم لمستشارى مجلس الدولة سوى صوت وحيد فريد فى الصلابة فى الحق هو صوت المستشار المرحوم الدكتور وحيد رأفت الذى كان اسماً على مسمى والذى ذكر زملاءه أنهم بفتواهم هذه يضعون أسس الحكم الدكتاتورى فى مصر.
إننا فى النهاية نعلم قدرات الأستاذ هيكل الإعلامية تماماً مهما جار على الحق وظلم التاريخ ونعلم أن المنبر المتاح له فى قناة الجزيرة الفضائية يغطى أضعاف أضعاف المنبر المتاح لنا فى جريدة الوفد ولكننا نؤمن إيماناً لا يتزحزح بأن ظلام العالم كله لا يستطيع أن يطفئ ضوء شمعة.

*****

عزيزي هيكل.. لماذا تكذب؟!
عبدالرحمن فهمي

رب السيف والقلم... الكاتب العسكري... المؤرخ الدقيق... اللواء أركان حرب جمال حماد.... هو نفسه (الصاغ) جمال حماد أحد مفجري ثورة يوليو، ليس بالكلام ولا بالادعاء مثل الموجة السائدة الآن، بعد وفاة معظم المعاصرين.... بل بالدليل والصور....هناك أكثر من صورة وهو يجلس مع محمد نجيب في مكتب اللواء حسين فريد رئيس أركان الجيش المصري حتي صباح 23 يوليو 1952 وفوق رأسهما صورة (جلالة الملك المفدي فاروق)!!! ثم حينما تركوه وحده في الحجرة ليجلس علي مكتب حسين فريد ويكتب بيان الثورة الذي ألقاه أنور السادات عبر الإذاعة أيضاً كان فوق رأسه الصورة الضخمة للملك المفدي!!!
كتابه الممتع السلس الشيق... بأسلوبه الرشيق اللعوب أرخ ثورة يوليو تحت عنوان (أسرار ثورة يوليو 1586 صفحة)... حرص علي ألا يقول شيئاً دون مستند رسمي دامغ...
لفت نظري الفصل الثالث والعشرون تحت عنوان (محمد حسنين هيكل... هل كان صانع الثورة).... وفي حوالي 75 صفحة أكد مؤرخ الثورة الأول كذب وافتراء الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في كل ما قاله سواء عبر الفضائيات أو في آخر كتاب له ـ حرص هيكل علي ألا ينشره إلا بعد وفاة معظم المعاصرين ـ وهو كتاب (سقوط نظام).... حرص اللواء جمال حماد أن يأخذ من مقالات الأستاذ هيكل القديمة ومقالات صديقه جلال ندا ليكذب به ما يقوله الأستاذ هيكل الآن.....
ولي تجربة حديثة مع الأستاذ هيكل وكتبت أكثر من مقال في هذا الشأن هنا... وقلت له في آخر مقال (وان عدتم عدنا)... ومع الأسف الشديد عاد الأستاذ هيكل مرة أخري يفتري علي الأموات... فقال ما نصه إن أحمد أبوالفتح أراد أن يستولي علي الثورة ويفرض رأيه عليهم فكان هذا سبب محاكمة هذه العائلة والإطاحة بها... ثم قال في موضع آخر إن هناك خلافات مستحكمة دائمة بين الأخين محمود وأحمد أبوالفتح....
والحقيقة يا أستاذ هيكل كما تعلمها أنت ولا أدري لماذا تقول غير الحقيقة.... الحقيقة أن جريدة »المصري« تبنت عودة الديمقراطية في أزمة مارس 1954... فثار معظم ضباط مجلس الثورة وقرروا غلق الجريدة والتنكيل بأصحابها.... واعترض البعض حتي إنهم اضطروا لأخذ الأصوات قبل اصدار القرار فكانت الأغلبية ضد »جريدة المصري«... فما كان من جمال عبدالناصر إلا أن زار أحمد أبوالفتح قرب الفجر ليعطيه جواز سفر دبلوماسياً دائماً وكلفه بالسفر إلي بيروت في نفس اليوم ليحمل رسالة لرئيس لبنان... لأنه كان يخشي عليه من الاعتقال أو المحاكمة... وقال يومها: »كيف نبطش بصاحب الفضل الأول علي الثورة«...
عزيزي الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل.... لماذا تلوث سمعتك بعد أن وصلت من السن أرذله... لماذا تلوي الحقائق وتقول عكس ما تعلمه جيداً... لقد اعتزلت بكرامتك فلماذا رجعت لتشوه صورتك؟!!!
أما القناة التي تبث منها...... فرغم كل الحملات التي تتعرض لها وكل النعوت التي يصفونها بها... إلا أنني كنت حتي وقت قريب حسن الظن بها وأحد مشاهديها الدائمين... ولكن.... ولكن....
لم أسع إليها... بل اتصل بي شخص يدعي أحمد أنور عرفت فيما بعد أنه (عمة كبيرة) في هذه القناة وطلب مني أن أستعد لكي أذكر بعض الحقائق في برنامج قريب وأعطاني رقم تليفونه وهو »0121715426« ولكنه اختفي... ولما حاولت الاتصال به مرة أخري لم يرد... فعرفت أنني كنت فعلاً مخطئاً في حسن الظن بهذه القناة..

*****

الحياد غير الإيجابي.. هيكل والوفد
بقلم : علي أبوالخير

سنعتبرها صدفة أن يستعيد الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل ذكرياته عن الحياة السياسية في مصر قبل 1952 أثناء احتدام معركة انتخابات الرئاسة المصرية، وهو يكيل الاتهامات لقيادات الوفد التاريخية مثل مصطفي النحاس باشا وفؤاد سراج الدين، هي صدفة كما قلنا ولكن ليس من الصدف أن يصر الأستاذ هيكل علي استدعاء ما اعتبره الشعب المصري من خرافات السياسة في مصر، مثل استجواب الكتاب الأسود وحادث 4 فبراير ،1942 فالذي ثبت فيما بعد أن مكرم عبيد باشا ندم علي كتابه، وظل الوفد كما هو حزبا يحترم خصومه والمنشقين عنه،
ونسي الناس هذا الكتاب، وما إن أجريت الانتخابات عام 1950 حتي نجح الوفد باكتساح أدهش الملك والإنجليز والمراقبين لهذه الانتخابات، أي أن الكتاب لم يؤثر علي شعبية الوفد، كما ذكر الأستاذ هيكل، وحكاية 4 فبراير 1942 فقد كانت خطوة أكثر من شجاعة من الوفد وزعيمه النحاس أن يقبل تشكيل الوزارة، لأن الرفض معناه إعادة الاحتلال البريطاني لمصر بشكل سافر، والدولة البريطانية كانت تخوض حربا ضارية، وجيش هتلر كان مازال في عنفوانه، علما بأن كل المراهنين علي هتلر سقطوا سواء في الاعتماد عليه أو في قدرته علي الانتصار مثل الحاج أمين الحسيني ورشيد عالي الكيلاني في العراق، ومصر بزعامة الوفد استطاعت أن تخرج من المأزق، وأن تخرج من الحرب الثانية دائنة لبريطانيا، وحكاية الديون ليست كما رواها الأستاذ هيكل، خاصة أن مصادره كلها غير مصرية، وكان عليه أن يسترجع ما ذكره فؤاد سراج الدين الذي كان وزيرا للمالية وهو الذي قام بجدولة الديون حتي جاءت الثورة لتحول هذه الأرصدة الذهبية لتمويل مغامراتها الخارجية والداخلية لتصبح مصر مدينة حتي الآن، إذن فالأستاذ هيكل يصر علي أن مصر كانت مدينة وليست دائنة أو علي الأقل دائنة بعملات ورقية لا قيمة لها، رغم أن وزراء المالية في عصر الرئيس جمال عبدالناصر لم يستطيعوا الرد علي ما قاله سراج الدين عن الذهب المصري الذي كان مملوكا للبنك المركزي الذي كان يمثله البنك الأهلي المصري.
فالأستاذ هيكل يمهد للمرحلة اللاحقة من ذكرياته التي حتما ستصل لمرحلته الناصرية، وكأنه يدافع عما حدث فيها بالنيل من زعماء الوطن ليصل إلي نتيجة أن الجميع سواء، وأن مصر نهبت ومازالت تنهب، فهناك فروق هائلة بين نهب ونهب، نهب سرقة ونصب بحماية أصحاب النفوذ، وآخر لم يصل إلي ما وصل إليه في العقود اللاحقة لعام ،1952 علما بأن مقارنة مصر باليابان تتسم بضيق الأفق والظلم لدور مصر الإنساني والتاريخي جميعا، فمصر صاحبة مشروع حضاري يستمد جذوره من دعوات التوحيد السماوية التي احتضنتها في مراحل تاريخها الإنساني، اليابان سقط مشروعها النهضوي بهزيمتها عام ،1945 والمشروع الحقيقي بدأ بعدها بتخلي اليابان عن الاستبداد الامبراطوري وتبنيها الديمقراطية فحمت مشروعها وصناعتها. وحكاية الاحتلال المستمر لمصر طوال تاريخها فقد فندها علماء تاريخ كبار وكتبناها علي نفس هذه الصفحة، ربما لا يستدرك هذا الأستاذ هيكل، ولكن المؤكد أن حلقاته عن الوفد ستتوقف بعد انتخابات الرئاسة، صحيح هي مصادفة، وصحيح أنه أبدي نقدا للنظام الحالي في حياد، ولكنا نراه حيادا سلبيا، يخفي أكثر مما يظهر، ويقلب من الحقائق ما هو معروف.

*****

معذرة يا أستاذ هيكل
عبدالرحمن فهمى

كنت أريد أن أقفل نهائياً الباب على »أخطاء« ولا أقول أدباً »أكاذيب وافتراءات« الأستاذ محمد حسنين هيكل.... ولكن تليفونات وايميلات وفاكسات الكثيرين،و كلهم رجال كبار لهم تاريخهم ومكانتهم الاجتماعية والسياسية وبعضهم من كبار الصحفيين حالياً.... الكل يريد المزيد من المعلومات عن كتاب »جبال من الرمال« لمؤلفه »ديلبير كرين ايفلاند« المستشار السابق للمخابرات الأمريكيةوعضو التخطيط السياسى للبيت الأبيض والبنتاجون سابقاً... وأنا لا أستطيع أن أقول للاخوة الأفاضل الكبار أكثر من أن هناك فى الكتاب باباً اسمه »سقوط أمريكا فى الشرق الأوسط«..
ويمكن مراجعة صفحة »320« السطر »17« إلى آخر الصفحة وما يليها... وما كتبه المؤلف الخطير الذى كان يوماً فى أكبر المراكز أهمية وحساسية ومسئولية..... يمكن مراجعة الكتاب لمن يريد، أما أنا فلا أريد أن أجارى الأستاذ هيكل فى »أخطائه« ولا أقول »خطيئاته« وأقوم بتشويه صورته كما فعل هو مع الكثيرين، مع الفارق الكبير.... فالأستاذ هيكل حى.... إذن أنا أواجه شخصاً حياً، ولكن الأستاذ هيكل ورث عن الأستاذ التابعى الافتراء على الأموات، لأنه لا يستطيع أن يواجههم فى حياتهم... لذا..
... لذا... معذرة للاخوة الكبار إذا لم أترجم لكم »اليوم« كل ما قاله شخص اسمه »كين روزفلت« وهو مدير محطة المخابرات الأمريكية فى الشرق الأوسط عن الأستاذ هيكل الذى بدأ كلامه عنه بوصفه بأنه »المفتاح«... وما سبب هذا الوصف.... معذرة لن أزيد....
حقيقة كنت لا أريد أن أعود إلى هذا المستنقع مرةأخرى.... ولكن.....
... ولكن هناك اتصالات تليفونية وعدت أصحابها بالكتابة عنها....
* قال لى أحدهم:
ـ انت تمت بصلة قرابة بعيدة بالملكة السابقة ناريمان.... فزوجة خال زوجتك وهى السيدة »فاطمة هانم رشاد« كانت ابنة خالة الملكة السابقة وكانت سكرتيرتها ووصيفتها... وكنت أنت أقرب صحفى لها.... وانت خير من يعلم أنها رفضت رفضاً تاماً باتاً مقابلة أى صحفى..... فلماذا لم ترد غيبتها.... وتؤكد أن كل ما قاله الأستاذ هيكل عنها وهو »ينفث« فى ميكروفون القناة الفضائية محض كذب وافتراء؟!!
... ولم أرد...
* قال لى آخر:
ـ هل تذكر صديقنا المشترك القديم الرائع الناشر الكبير محمد المعلم حينما أعطاك شيكين على بياض واحداً باسم المرحوم محمد أحمد سكرتير خاص عبدالناصر والآخر باسم زغلول عبدالرحمن مساعد يوسف صديق الذى اعتقل بنفسه حسين فريد ليلة الثورة وأودعه السجن وكان المرحوم المعلم يريد شراء مذكراتهما بأى ثمن هما يحددانه... هل تذكر الحجرتين الضيقتين فى شارع جواد حسنى مقر وملتقى مفكرى مصر وكتابها زمان.
قلت له: ياريت أيامها دامت.... لقد انقلب الحال الى النقيض الآن.... نهايته.... ماذا تريد؟!
قال: »هل نسيت أننى أخذت شيكاً ثالثاً باسم فريدة ذوالفقار الملكة السابقة لشراء م ذكراتها بأى ثمن تطلبه وفشلت فى ذلك.... وقالت لى يومها الملكة السابقة انهاعاهدت نفسها أن لا تتكلم عن والد بناتها!!!...
أولاد الناس الطيبين.... ماذا تنتظر غير ذلك.... كان هذا تعليقى همساً.....
ثم قال: »هل نسيت أنك كتبت أنت أكثر من مرة فى أكثر من مناسبة مقالات طويلة تشيد بهؤلاء الثلاثة الذين رفضوا أن يبيعوا تاريخ مصر.... لماذا لم ترد غيبة الملكة فريدة أيضاً فى كتاباتك الأخيرة فى جريدة »الوفد« الغراء.
.... ولم أرد!!!
معذرة يا أستاذ هيكل.....
لم أكن أريد الرجوع إليك.... فليس هناك أدنى حلاوة فى الرجوع إليك!!!

*****

هيكل وحكاية السنوات العشر
بقلم: محمد حسن أحمد

»من يتحمل مسئولية دولة لا يمكنه طبيا الحكم لأكثر من عشر سنوات«.. هكذا طلع علينا مؤخرا الأستاذ محمد حسنين هيكل في حديثه لقناة الجزيرة القطرية محددا مدة صلاحية الرؤساء! وهو رأي يحتمل الاتفاق والاختلاف، ولا ينبغي أن يؤخذ علي عواهنه، ذلك أن أحداث التاريخ أثبتت أن هناك من الرؤساء من قد لا يصلح لتحمل المسئولية ليوم واحد، وهناك من حقق نجاحا ومجدا وانتصارات لبلاده وقد دام حكمه حينا من الدهر..
والأمثلة كثيرة وأكتفي هنا بذكر مثلين هما محمد علي وجمال عبدالناصر وهما كما وصفهما هيكل نفسه في إحدي مقالاته مؤسسا مصر الحديثة.
حكم محمد علي مصر أكثر من أربعين عاما »الفترة من 1805 حتي 1849« حقق فيها من الأمجاد لبلاده ما وضعه في مكانة سامقة من تاريخ مصر، ففي عهده انتصر المصريون علي الإنجليز في عام ،1807 وهو الذي نظم الجيش والبحرية والري والتعليم وانتصر علي الوهابيين ثم فتح السودان، وسار من نصر إلي نصر ونهض بمصر نهضة كبيرة وأعلي مقامها بين الدول وأدخل بها إصلاحات كثيرة في جميع نواحي الحياة، وانشأ كثيرا من المدارس العليا وأرسل البعثات العلمية وشيد القناطر الخيرية وجدد الموانئ ونشر الأمن في البلاد.. أربعون عاما من الفكر والبذل والعطاء والبناء حتي أناب عنه في الحكم ابنه إبراهيم في آخريات حياته.
تري ماذا يقول هيكل عن رأيه السابق في محمد علي ورأيه الحالي بضرورة عدم تجاوز السنوات العشر »طبيا«؟! والمثل الآخر وهو جمال عبدالناصر الذي تجاوزت فترة حكمه أيضا السنوات العشر بكثير فقد عاش هيكل كأقرب رجل إليه لمدة ثمانية عشر عاما بالتمام والكمال صديقا مقربا ومفكرا موثوقا به وكاتبا لخطبه المنبرية ومدافعا عنه في انتصارته وهزائمه، ولم نقرأ له سطرا وأحدا ينادي بهذا الرأي »الطبي« بعد أن تجاوز عبدالناصر مدة الصلاحية بسنوات، بل علي العكس، كتب هيكل بعد الهزيمة الكبري في يونيو 67 من المقالات ما يؤيد فكرة استمرار الزعيم الملهم، مهونا من شأن الهزيمة واصفا إياها بالنكسة العابرة وأن المهم أن الزعيم باق.
آه لو كان »الأستاذ« قد أعلن مثل هذا الرأي بعد أن اكتملت السنوات العشر لتولي الزعيم المسئولية وطالبه علنا بالاعتزال أو علي الأقل بالاستئذان في الانصراف.. ثم آه لو كان الزعيم الراحل قد استمع للنصيحة المخلصة.. لو حدث هذا لما كانت قد حلت أقسي هزيمة مرت بتاريخ مصر في الخامس من يونيو 67 والتي احتلت علي أثرها دولة الكيان الصهيوني أراضي الضفة والجولان وسيناء.
لماذا لم يقلها هيكل عندما كان هو الصحفي الأوحد يكتب ما يشاء ويقول ما يريد. أكتب هذا وأنا لست عضوا بأي حزب ولا أدافع عن فكرة بقاء أي رئيس في السلطة دون ضوابط.. لكنه مجرد استفسار يحتاج لتوضيح.. لماذا لم نسمع من هيكل مثل هذا الرأي بعد أن تجاوز عبدالناصر سنواته العشر في الحكم؟ ألا يخشي هيكل أن يقال إنه كان في حضن السلطة وقتها فدافع عن بقاء الزعيم وأغمض عينيه عن احصاء عدد السنين؟ بينما وهو خارجها الآن ينادي بعكس ما نادي به من قبل لأن لكل مقام مقالا؟!
إنني واحد من المعجبين بشخصية الأستاذ هيكل ككاتب فريد ومحلل نابه وشخصية عصامية وصحفي لامع أدي دوره ولم يتوقف حتي الآن ولا أتمني له التوقف ولم أوافقه علي استئذانه في الانصراف بل أطالبه بشدة بالاستمرار.. فقط أطالبه بمراجعة نفسه وأقواله المكتوبة في الماضي القريب حتي لا يكون هناك تناقض بين ما قال وما يقول.
وأكرر علي سيادته السؤال الذي يحتاج إلي توضيح: لماذا لم يطالب طوال حكم عبدالناصر بتحديد مدة الرئاسة، بل صك مبدأ البقاء مدي الحياة بزعم تفويض الشعب للرئيس الملهم لإزالة آثار العدوان، والمعروف أنه حتي الآن لم يرحل الكيان الصهيوني عن الجولان أو الضفة، وعلي ذلك فلو قدر لعبدالناصر أن يمد الله في عمره حتي الآن لظل هيكل مدافعا عن بقاء الزعيم لخمسين سنة أخري ولتغاضي في أغلب الأحيان عن فكرة السنوات العشر ولله في خلقه شئون.

*****

الحقيقة بين أبو الفتح وهيكل
عبدالرحمن فهمى

لاشك أن الأستاذ محمد حسنين هيكل ظاهرة صحفية كان لها بريقها يوماً ما، ومازال يحتفظ ببعض أضواء هذا البريق حتى الآن... ولكنه أيضا مما لاشك فيه بشر له أخطاؤه ولا أريد أن أقول »خطيئاته.... بعض زملائنا الصحفيين الكبار يعتبرون ما يكتبه الأستاذ هيكل وربما ما يقوله أيضاً لا يأتيه الباطل ـ واستغفر الله العظيم ـ والكثرة من اخواننا الصحفيين الكبار جداً أيضاً يعتبرون ما يكتبه الأستاذ هيكل إفكاً وكذباً وضلالاً... حتى أن صحفياً كبيراً مرموقاً وصفه منذ أيام بالألعبان!!!
وكل ما أرجوه أنا هنا ألاّ يكون كلامى اليوم يؤيد هذا الوصف الأخير... ولكن فقط أريد اليوم أن أصحح بعض المعلومات التى »تفوه« بها سيادته عبر إحدى الفضائيات ونشرتها إحدى المجلات... لأننى معاصر لهذه الأحداث عن قرب شديد.
* قال الأستاذ محمد حسنين هيكل ما معناه إنه كان همزة الوصل بين الثورة ـ ليلة اندلاعها ـ وبين أحمد نجيب الهلالى باشا رئىس الوزراء... وكيف كان يمسك التليفون ليتحدث مع الهلالى باشا فى نفس حجرة قيادة الثورة، ثم يعطى السماعة للواء محمد نجيب، ثم يعود فيتحدث مع الهلالى باشا وينقل ما يقوله الهلالى باشا لجمال عبدالناصر... وتوالت المكالمات بهذا الشكل عدة مرات....!
عزيزى الأستاذ هيكل... القصة القديمة تقول:قال الابن لأبيه تعالى يابابا نتعلم الكذب... فقال الأب لابنه انتظر يا ابنى لما يموت اللى يعرفونا!!!!
عزيزى الأستاذ هيكل:
ـ لم نمت بعد
... ففى الساعة الواحدة من صباح 23 يوليو ـ أى بعد منتصف ليلة 22 يوليو بساعة واحدة ـ كان ثلاثة صحفيين داخل مقر رئاسة أركان حرب الجيش فى شارع الخليفة المأمون الذى تحول إلى مقر قيادة الثورة لأن فى هذا المبنى نجحت الثورة بعد السيطرة على الجيش كله باعتقال حسين فريد رئىس الأركان ـ والذى اعتقله يوسف صديق وزغلول عبدالرحمن ـ لمعلوماتك زغلول عبدالرحمن ابن عمتى!!! والذى حدد موعد الثورة الأستاذ أحمد أبوالفتح من الاسكندرية عندما علم بأن حسين سرى عامر سيتولى وزارة الحربية وسيعتقل كل الضباط الأحرار... هذه معلومات معروفة.
الصحفيون الثلاثة فى مقر قيادة الثورة كانوا: سيادتك مبعوثاً من قبل نجيب الهلالى شخصياً ومرسى الشافعى مدير تحرير »المصرى« وكاتب هذه السطور... وكنت تجلس فى الحجرة الخارجية أمام السلم مباشرة تتحدث بالتليفون من آن لآخر مع نجيب الهلالى لكى تنقل له كل حركات الضباط الأحرار الذين كانوا يتوجسون منك خيفة باعتبارك من رجال السلطة.
واسمح لى أن أنشط ذاكرتك بأنك كنت تؤكد لنجيب الهلالى بأنها حركة داخل الجيش لا أكثر... وممكن جداً احتواؤها أو اخمادها... وبالصدفة وصل هذا الكلام لمسامع المرحوم مرسى الشافعى الذى هرول اليك وهز كتفك بعنف وهدد بأنه سينقل هذا الكلام لمحمد نجيب.... وأنك غادرت المكان بسرعة...
فى نفس اللحظة كان احسان عبدالقدوس قد وصل وتعجت انت حينما دفع باب الحجرة الرئىسية بيده ودخل مباشرة الى الضباط الأحرار بينما لم تستطع انت ذلك....
* لقد شاهدت هذه الواقعة بنفسى... وأنت تنقل كل الأخبار للهلالى باشا تليفونياً من أمام السلم الرئىسى بعيداً عن الحجرة الرئىسية.. ثم تهديد مرسى الشافعى لك وهرولتك خارج المبنى!!... والله شاهد على كل شىء...
* واسمح لى أن أستحلفك بأولادك بأن ما أكتبه الآن هو الحقيقة... وأن ما قلته انت وكتبته محض كذب وخيال لا أساس له من الصحة...
هذه و احدة....
* ثم فى حديث لاحق... قال الأستاذ هيكل ـ وربما أعذره فبعد سن الثمانين كثيراً ما تخوننا الذاكرة ـ قال ان أحمد أبوالفتح ألح على مصطفى النحاس الذى كان يعالج فى مدينة ايفيان بسويسرا أن يحضر الى مصر بسرعة لمقابلة محمد نجيب ليبارك الثورة.... ولكن مصطفى النحاس رفض!!!
ويقول الأستاذ هيكل إنه سأل فؤاد سراج الدين عام 1981 خلال المعتقل عن سبب رفض مصطفى النحاس الاستجابة لطلب أبوالفتح فقال فؤاد باشا إن النحاس يخشى من ركوب الطائرات أولاً... ثم كان يريد أن »يكّون موقفاً من حركة الجيش«... واستطرد فؤاد باشا فى شرح موقف النحاس بأن من عادة النحاس باشا دراسة الموضوع قبل أن يحدد موقفه لذا اتصل تليفونياً بعلى باشا ماهر رئىس الوزراء ـ رغم أنه يكرهه جداً ـ ويعتقد فؤاد باشا أن النحاس كلم ماهر باشا بعد إلحاح من أحمد أبوالفتح!!
* والحقيقة كما عشتها.... لأننى كنت مقيماً مع إخوالى آل أبوالفتح فى 5 شارع أحمد حشمت بالزمالك فى المنزل ومقيماً معهم فى العمل بالجريدة... الحقيقة أن النحاس باشا كان يعالج عند نفس الطبيب السويسرى الذى كان يعالج المرحوم محمود أبوالفتح الذى كان يقيم معهما ـ مع النحاس باشا وفؤاد باشا فى نفس المصحة ـ وكان المرحوم محمود أبوالفتح على اتصال تليفونى دائم بأخيه أحمد من أجل الجريدة كشىء طبيعى باستمرار سواء كانت هناك ثورة أو لم تكن...
وكانت كل مكالمات أحمد أبوالفتح لشقيقه محمود أنه يرى أن من المصلحة أن يحضر النحاس باشا وفؤاد باشا بسرعة لتأييد الثورة... خاصة أن من أهداف الثورة عودة برلمان الوفد الذى حله الملك والاستمرار فى محاربة الإنجليز فى القناة.... وأن إلغاء المعاهدة وإعلان الجهاد ضد الإنجليز وحريق القاهرة لإخماد هذا التيار الوطنى الجارف هو سبب قيام الثورة.
اقتنع محمود أبوالفتح بكلام شقيقه وبدأ يقنع النحاس باشا وفؤاد باشا بوجهة النظر هذه... وبعد ساعة من الزمن اقتنع النحاس باشا وكان له شرط هو أن يتوجه من المطار الى منزله حيث يستقبل اللواء نجيب فى منزله ومع من يريد من زملائه، ولا يذهب هو الى مقر قيادة الثورة كما طلب أحمد أبوالفتح.
ونقل هذا الرأى المرحوم محمود أبوالفتح لشقيقه بالقاهرة... فاعتبر أحمد أبوالفتح انها خطوة... المهم اركبوا أول طائرة بسرعة وسأكون فى انتظاركم.
ركب مصطفى النحاس الطائرة يا أستاذ هيكل... ووصل مطار القاهرة يا أستاذ هيكل... وكان فى انتظاره ـ وقد تتعجب من بعض الأسماء ـ كان فى انتظاره أحمد أبوالفتح وإبراهيم فرج واحسان عبدالقدوس وابراهيم طلعت »الليبرالى العظيم« والدكتور السيد أبوالنجا وآخرون... وفى حجرة كبار الزوار كان اقناع النحاس باشا بأن يزور محمد نجيب فى مكتبه فى مقر القيادة فى شارع الخليفة المأمون، وسيرد له نجيب الزيارة بعد ذلك... ونجيب رجل طيب ويحترم تاريخ النحاس باشا أيما احترام...
لم يكن النحاس باشا مقتنعاً تماماً بوجهة النظر هذه... كان يخشى أن يتصور رجال الثورة أنه جاء »يبارك ويقدم خدماته... بل وتاريخه« خاصة وأن الضباط صغار السن بكباشى فما تحت!!!... كان النحاس باشا بعيد النظر جداً حينما قال بعصبيته المعروفة وهو يدق بعصاه الأرض... لقد تقدمت نحوهم خطوة وجئت من أوروبا دون أن أكمل العلاج فعليهم الخطوة التالية واستقبلهم فى منزلى....
ولكن كانت هناك وجهة نظر أخرى هامة... لا أذكر بالضبط من صاحبها... هل إبراهيم فرج أو إحسان أو إبراهيم طلعت... كان الكلام حول أن الإخوان المسلمين يتقربون جداً من رجال الثورة خاصة وأن بعضهم كان من بين صفوف الإخوان.... ثم رجال الحزب الوطنى القديم برئاسة حافظ رمضان وفتحى رضوان هناك تعاطف واحترام متبادل بينهم وبين رجال الثورة... فلابد للوفد أن يحتل مكانته الأولى عند رجال الثورة خاصة وأنهم »حكومة الوفد« هم الذين مهدوا لهم الطريق الى الثورة..
* قام النحاس باشا من مقعده... وهو غير مقتنع وغير متحمس... وذهب الى مقر قيادة الثورة بصحبة فؤاد باشا ومحمود أبوالفتح وأحمد أبوالفتح وإبراهيم فرج فقط...
وياعزيزى الأستاذ هيكل ـ وأنت رجل تعشق الوثائق ـ ممكن أن ترجع الى صحف هذه الأيام ـ خاصة جريدة »المصرى« وستجد صفحة كاملة عن هذا اللقاء التاريخى...
* وأذكر بالمناسبة أن محمود أبوالفتح وجه الدعوة لرجال الثورة لتناول العشاء فى منزله بعد بضعة أيام من هذه المقابلة... حينما لم يذهب اللواء نجيب لرد الزيارة للنحاس باشا.... وأذكر أن رجال الثورة انبهروا بمنزل أبو الفتح الفخم وكانوا مازالوا يقطنون شققهم المتواضعة ولم يستولوا بعد على القصور الملكية وغير الملكية!!!... لذا كان الحقد والحسد يملأ عيونهم عدا اللواء نجيب البشوش المتفائل العظيم... لذا لم يمر عامان حتى تم الاستيلاء على هذا المنزل.... وقيل يومها إنهم قرروا ذلك وهم ضيوف يأكلون طعام صاحب المنزل..... نهايته.... ما يحدث لنا الآن شوية!!!
* أما حكاية اعتقال مصطفى وعلى أمين فى أول أسبوع من الثورة مع اللواء عبدالمنصف محمود وكيل وزارة الداخلية واللواء أحمد طلعت حكمدار العاصمة واللواء محمد ابراهيم امام رئىس القلم المخصوص »وليس القسم المخصوص كما قلت« والبكباشى توفيق السعيد والبكباشى محمد الجزار ضباط القلم السياسى... فهذه قصة أخرى طويلة... بطلها المرحوم عبدالرحمن زايد المحرر بجريدة »المصرى« ومندوب الجريدة الدائم فى وزارة الداخلية وليس أحمد أبوالفتح كما ذكرت... بل كان لأحمد أبوالفتح الفضل فى الافراج عن مصطفى وعلى أمين... ومن بعدهما احمد نافع شقيق ابراهيم نافع.... وهذه قصة طويلة أخرى... موعدنا العدد القادم.... إذا كنا من أهل الدنيا.

*****

بين أبوالفتح وهيكل: أخطر مكالمة تليفونية!!!
عبدالرحمن فهمى

رغم أن هذا الأسبوع حافل بالأحداث التي تستحق التعليق... لعل أهمها وأخطرها بيان وزير المواصلات الذي حدد وحصر مسئولية كارثة العبارة في شخص القبطان، رغم أن النيابة العامة والمدعي الاشتراكي مازالا يواصلان التحقيق!!!! ولكن هناك لهفة ورغبة عاجلة لتبرئة »هولاكو العصر الحديث« الذي قتل بضربة واحدة أكثر من ألف شخص وأضاع عقل خمسمائة آخرين!!!!!!... ثم وزير آخر مصر علي بيع عمر أفندي بأبخس الأسعار رغم أنف مصر كلها!!!!.... ثم وزير ثالث مع محافظ كانا بطلي مهزلة الاحتفال بكسوف الشمس.... الشمس »انكسفت« ولكنهما لم ينكسفا من مهازل الاحتفال العالمي الذي تم بثه علي العالم كله!!!!
كنت أريد أن أكتب عن كل هذا.... وهناك كوارث أخري أكثر إيلاماً شهدتها البلاد هذا الأسبوع.
..... ولكن كما وعدت القراء... سأستمر في التعليق علي »مايبثه« الأستاذ محمد حسنين هيكل من »كلام« عبر الفضائيات ولا أقول »ماينفثه« من »سموم« كما يقول بعض كبار الصحفيين.
بتجرد تام... وبدون تجاوز... وبالوقائع والأدلة... بدون خيال أو استنتاج... بقلم شاهد علي العصر امتد به العمر... بكل أمانة أكتب ما رأيته بعيني وسمعته بأذني وعشته بجسدي... دون أن أتهم أحداً بالكذب أو الافتراء أو تصفية حسابات... فقط... فقط... من باب ما تعلمناه من احترام الكبير سناً... سناً فقط!!!
قال الأستاذ هيكل إن النحاس باشا رفض بشدة فكرة الأستاذ أحمد أبوالفتح في العودة الي مصر بسرعة ليقابل محمد نجيب بمجرد قيام الثورة... وكان أيامها النحاس باشا مع فؤاد سراج الدين ومحمود أبوالفتح في مصحة في ايفيان بسويسرا للعلاج.
وقال الأستاذ هيكل إن فؤاد سراج الدين قال له في المعتقل عام ،1981 إن النحاس باشا رفض فكرة العودةلأكثر من سبب، أهمها أنه لم يدرس الموقف الدراسة الكافية قبل أن يتخذ هذه الخطوة ويبارك الثورة... ثم النحاس باشا لا يركب الطائرات قط!!!... ولكن تحت إلحاح أحمد أبوالفتح اتصل بعلي باشا ماهر رئيس الوزراء تليفونياً ليعرف منه الأخبار... رغم أنه يكره علي ماهر جداً... ولكن كان الإلحاح من أبو الفتح سبباً في هذه المكالمة...
هذا ما »بثه« هيكل من فمه أمام الميكروفون!!!
وليسمح لي الأستاذ هيكل أن أقول له إن فؤاد سراج الدين لم يقل هذا الكلام قط!!!.... مرة أخري لا أتهم الأستاذ هيكل بالكذب والافتراء كما يقول معظم اخواننا كبار الصحفيين الآن... ولكن فقط أعذره بعد أن تجاوز الثمانين من العمر ببعض السنوات... وكلنا معرضون لما يسميه الأطباء بالزهايمر!!!!
ودليلي علي أن فؤاد باشا لم يقل هذا الكلام... هو الوثائق التي يعشقها الأستاذ هيكل... فلو عاد الي الصحف ـ وجريدة »المصري« بالذات ـ لوجد أن كل كلامه محض خيال ونسب لفؤاد سراج الدين ما لم يقله قط.... فالنحاس باشا ركب الطائرة... ووصل مطار القاهرة... واجتمع بمحمدنجيب في مقر قيادة الثورة بشارع الخليفة المأمون... علي نحو ما كتبته الأسبوع الماضي..
ولكن الجديد الذي لم أكتبه... هو قصة المكالمة التليفونية مع علي باشا ماهر رئيس الوزراء....
عفواً يا أستاذ هيكل..... لم يتحدث النحاس باشا مع علي باشا ماهر قط... وهذا بالمنطق أولاً.... فالزعيمان المتنازعان علي رئاسة الوزارة سنوات طويلة لن يطمئن أحدهما للآخر في ظل عهد جديد لا أحد يعرف هويته وطموحاته بعد... بالمنطق يا أستاذ هيكل... النحاس باشا المعتز بنفسه وتاريخه وكبريائه لا يمكن ان يتنازل عن شيء من هذا ويتحدث مع علي ماهر الذي سيؤل حديثه تأويلاً آخر....
وبالمنطق أيضاً يا أستاذ هيكل... وانت صحفي مخضرم عشت سنوات عمرك المديدة تقرأ وتكتب وتسمع وتقابل وتسافر وترصد وتستنتج هل أنت تتصور ان النحاس باشا سيطمئن الي كلام يقوله علي ماهر؟!!!!
إذن... ما حقيقة هذه المكالمة؟!
ـ أقول لك حقيقة هذه المكالمة... لأنها تحتوي علي عبارة شهيرة جداً قالها رجل محنك..
ـ الموقف .. النحاس باشا يرفض بشدة العودة... وفؤاد سراج الدين ومحمود أبوالفتح يؤيدان فكرة أحمد أبوالفتح بالعودة بسرعة و»احتواء« الثورة المؤمنة أصلاً بإلغاء المعاهدة ومحاربة الإنجليز... وخلال المناقشات المستمرة في مصحة سويسرا واصرار النحاس باشا علي معرفة مواقع قدميه قبل أن يخطو أية خطوة كعادته دائماً... رأي محمود أبوالفتح بصفته صحفياً أولاً وصاحب أكبر جريدة عربية ثم هو صديق شخصي لعلي باشا ماهر... قرر في المساء أن يتصل بعلي ماهر في منزله بعد أن يستريح ليدردش معه بطريقته الصحفية لمعرفة أخبار البلد... وعلي ماهر من موقعه كرئيس للوزراء عنده كل أسرار البلد وله رؤية في المستقبل وهو السياسي القديم المخضرم المحنك... لذا كانت المكالمة التليفونية الطويلة المشهورة يا أستاذ هيكل... كانت بين محمود أبوالفتح وعلي ماهر في حضور وعلي مسمع من النحاس باشا وفؤاد باشا... وليس بين النحاس باشا وعلي ماهر!!!
ـ كانت مكالمة طويلة وغريبة وخطيرة.... ومشهورة... فقد كانت بين اثنين من الأصدقاء بين علي ماهر رئيس الوزراء في أخطر فترة من فترات تاريخ مصر بعد ثورة الجيش بثلاثة أيام من قيامها... وبين أكبر صحفي في مصر يملك أكبر جريدة في ذلك الوقت جريدة »المصري« يستغلون اسمها الآن في صحف جديدة...
ويبدو أن علي ماهر كان واثقاً أن الثورة لم تحكم قبضتها بعد علي جهاز الأمن... فلم تبدأ بعد أعمال التجسس علي المكالمات... لذا كان علي باشا ماهر علي راحته في الكلام.... ولكن العبارة التي اشتهرت بها هذه المكالمة التاريخية هي ما قاله علي ماهر لمحمود أبوالفتح ملخصاً الموقف كله... قال علي ماهر: »يامحمود الفريسة خلاص دخلت فم الأسد... الموضوع انتهي«!!!!
ـ علي فكرة... وصفت ذات يوم الحوارات بين الأقطاب الكبار بأنها »حوارات الديناصورات«... فكل كلمة لها أكثر من معني.... وكل عبارة ممكن أن تكون كتاباً!!!!
وهكذا يا أستاذ هيكل... تجد كل ما قلته عبر الشاشة »خطأ«... ولا أجد كلمة »مهذبة« أصف بها كلامك بأكثر من كلمة »خطأ«... فالنحاس باشا عاد... وبالطائرة.... وقابل محمد نجيب.... ولبي نداء أو قل حقق فكرة أحمد أبوالفتح..... ولم يتصل هو بعلي ماهر ـ وما كان له أن يفعل ذلك ـ والذي اتصل هو صديق علي ماهر محمود أبوالفتح واختار أبوالفتح وقتاً في المساء يكون فيه علي ماهر مستريحاً في بيته بلا مشاغل وبلا مشاكل... ليتكلم كلام أصدقاء علي راحته...
عزيزي الأستاذ هيكل..... التاريخ أمانة.... وأمانة ثقيلة لأن السؤال عنها سيكون مثل يوم السؤال.... الأمانة رفضت الجبال ان يحملنها وحملها الإنسان وكان جهولاً... وظلوماً... لا تظلم نفسك وتهز صورتك وقد بلغت من السن أرذله...
ـ أخذنا الكلام... وغرقنا في التاريخ...
ـ ولم أصل بعد الي قصة اعتقال مصطفي وعلي أمين في بداية الثورة... بناء علي ثلاثة أسطر كتبها المرحوم عبدالرحمن زايد أقدم صحفي عمل في دوائر وزارة الداخلية... فالي العدد القادم بإذن الله... إذا كنا لازلنا من أهل الدنيا.

*****

ومازال الملف مفتوحا ...